في مطلع القرن العشرين تسببت طاهية تدعى ماري مالون في نقل عدوى التيفوئيد إلى العشرات من أثرياء نيويورك، لتقضي بعدها 25 عاما في الحجر الصحي، لكن هذا لم يكن السبب الوحيد لبقائها في الحجر الصحي حتى وفاتها.
ولدت ماري مالون في إيرلندا بمقاطعة تيرون عام 1869، وتركت بلدها عندما أصبحت مراهقة للبحث عن حياة جديدة في الولايات المتحدة الأميركية.
وبحلول عام 1900 كانت ماري طاهية مهاجرة تعمل في منازل العائلات الثرية بمدينة نيويورك وحولها، وقيل إن طبقها المميز كان “آيس كريم خوخ” وفقا لهيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”.
وبين عامي 1900 و1907 قامت ماري بالطهي في منازل سبع عائلات، أصيب في كل منزل منها عدد من الأفراد بارتفاع درجة الحرارة لفترة طويلة وصداع وغثيان وإسهال، وكان التشخيص الطبي أنهم أصيبوا بمرض التيفوئيد.
وفي عام 1906 استأجر أحد مالكي العقارات في لونغ آيلند بمدينة نيويورك باحثا يدعى جورج صوبر، ليتابع مصدر تفشي مرض التيفوئيد، خاصة أن مالك العقار كان قد أجر منزلا لمصرفي، وأصيب 6 من سكان المنزل البالغ عددهم 11 بالتيفوئيد.
وبحسب “ناشيونال جيوغرافيك”، ركز صوبر اهتمامه على “الطاهية” التي كانت قد وصلت قبل 3 أسابيع من اكتشاف إصابة الشخص الأول.
وبتمشيط قائمة الأثرياء في نيويورك الذين عملت لديهم ماري بين عامي 1900 و1907 اكتشف إصابة أكثر من 22 شخصا من سكان تلك المنازل بحمى التيفوئيد.
وكان ما يقارب 639 شخصا قد ماتوا بسبب التيفوئيد في المناطق الفقيرة في نيويورك خلال عام 1906.
وبعد 4 أشهر من بدء التحقيق طلب صوبر من الطاهية ماري ذات الـ37 عاما عينة من البول والبراز لفحصهما، لكنها رفضت وهددته، بعدها اصطحب رجال الشرطة ماري إلى المستشفى بالقوة وأجريت لها الفحوصات، وظهرت النتيجة إيجابية كحامل للسالمونيلا المسببة للتيفوئيد.
عزلت ماري في منشأة العزل بجزيرة نورث براذر (North brother island) على النهر خارج نيويورك، ومع ذلك لم تصدق أبدا أنها مريضة، إذ كانت تعتقد أنها لا بد أن تظهر عليها الأعراض وتشتكي من المرض حتى تكون بالفعل مريضة.
وتعرضت ماري للوصم المجتمعي ككثير من مرضى كورونا اليوم، وأطلق عليها الأميركيون “ماري تيفوئيد”، مما جعلها تشعر بالإهانة والحزن.
ورفعت ماري دعوى قضائية عام 1909 ضد وزارة الصحة في مدينة نيويورك، وتحدثت عن مسؤولية الدولة في أزمة الصحة والاستقلال الذاتي، وأنها سجنت في منشأة العزل دون مراعاة القانون وبشكل غير عادل لأنها تتمتع بصحة جيدة، وأطلق سراحها بعد عام واحد بشرط أن تتوقف عن الطهي لحماية المجتمع.
عملت ماري مالون في مغاسل الملابس لكن الأجر كان زهيدا، لذا غيرت اسمها إلى “ماري براون” واستأنفت العمل في المطابخ حول نيويورك ونيوجيرسي، وأعدت وجبات الطعام لفندق ومطعم برودواي وفي مستشفى سلون للولادة الذي أصيب فيه 25 شخصا بالتيفوئيد في عام 1915.
وتتفق معظم المصادر على أن ماري أصابت على الأقل 50 شخصا بالتيفؤيد، توفي منهم ثلاثة، لكن صحيفة غارديان أكدت أن بعض التقديرات تصل بالأعداد إلى الآلاف.
وبعد تفشي الإصابات -خاصة في المستشفى- تمت الاستعانة بجورج صوبر مرة أخرى للتحقيق، واكتشف بعد البحث أن الطاهية ماري براون هي ذاتها ماري مالون، وأعيدت إلى منشأة العزل وظلت محتجزة فيها حتى توفيت بالسكتة الدماغية عام 1938 بعد حوالي ربع قرن من الحجر الصحي وإنكار دائم ومتواصل من جانبها بأنها حاملة للتيفوئيد.
وتقدر منظمة الصحة العالمية أن ما بين 11 و20 مليون شخص يمرضون من التيفوئيد ويموت منهم من 128 إلى 161 ألف شخص كل عام.
وتتسبب بكتيريا السالمونيلا في حمى التيفوئيد المهددة للحياة، والتي تنتشر عادة من خلال الطعام أو الماء الملوث وتتكاثر وتنتشر في مجرى الدم.
وينتشر التيفوئيد عادة في المناطق الفقيرة التي تفتقر إلى مصادر مياه آمنة ومرافق الصرف الصحي الملائمة، وبالعودة إلى زمن ماري كان المرض منتشرا بالفعل في أحياء نيويورك الفقيرة، وكان الغريب وقتها أن يصيب التيفوئيد أفرادا من العائلات الثرية التي تسكن في الأحياء الراقية، خاصة أن “الطاهية” كانت تتمتع بصحة جيدة وخالية من أعراض المرض.