كانت «أمينة» تعتقد أن أصعب لحظة في غربتها هي أول ليلة نامت فيها في شقة خالية إلا من مرتبتين على الأرض وأطفالها الثلاثة متكدّسون بجوارها. لم يخطر ببالها أن لحظة أخرى، بعد سنوات من الاستقرار النسبي، ستجعل قلبها يخفق بذعر وهي تقرأ رسالة رسمية تقول في سطرها الأول:
«إشعار بمراجعة الأهلية لبرامج المساعدات الغذائية والطبية… قد تكونون قد حصلتم على منافع لا يحق لكم الحصول عليها».
أعادت أمينة قراءة الجملة مرارًا. الورقة التي جاءت من مكتب خدمات الولاية تشير بوضوح إلى برنامجين هما:
بطاقة الغذاء (فوود ستامب / SNAP) التي تعتمد عليها لشراء الطعام لأولادها، وميدكيد (Medicaid) الذي يغطي زيارات الطبيب وفحوص الأطفال. في نهاية الخطاب، موعد لمقابلة إلزامية مع موظفة القسم، وتحذير من أنه إذا تبيّن وجود معلومات غير صحيحة عن الدخل، فقد يُطلب منهم ردّ مبالغ دُفعت لهم خلال الشهور الماضية.
جلست أمينة على حافة الكرسي في المطبخ، ووضعت يدها على رأسها. عندما عاد زوجها «خالد» من شغل التوصيل الليلي، ناولته الخطاب دون كلمة. قرأه بسرعة، ثم رفع نظره إليها في صمت ثقيل. كان السؤال معلقًا بينهما بلا حاجة إلى نطق: «هل أخطأنا حين اعتبرنا أن الشغل الكاش لا يُحسب؟»
من بطاقات الطعام إلى شغل التوصيل: كيف بدأت القصة؟
وصلت الأسرة إلى الولايات المتحدة منذ قرابة ثماني سنوات. في السنوات الأولى، عمل خالد في وظائف متقطّعة، وحصلت أمينة على عمل جزئي في تنظيف المكاتب ثم توقفت بعد إنجاب طفلتها الثالثة. دخل الأسرة كان ضعيفًا ومضطربًا، فنصحهم أحد الأقارب بالتقدّم للحصول على:
- فوود ستامب: بطاقة إلكترونية تُستخدم لشراء الغذاء الأساسي من المتاجر.
- ميدكيد للأطفال: تأمين صحي حكومي يقلّل تكاليف الكشف والأدوية واللقاحات.
في مقابلة التقديم الأولى، سألَتهم الموظفة عن كل تفصيلة: عدد أفراد الأسرة، الإيجار، الدخل الشهري، حتى ساعات العمل الأسبوعية. قدّم خالد ما يثبت دخله المعلن في ذلك الوقت، وتمّت الموافقة. شعرت أمينة بأن عبئًا ثقيلًا أزيح عن صدرها؛ لم تعد تخشى أن يأتي آخر الشهر بلا طعام كافٍ أو فاتورة طبيب لا تستطيع دفعها.
الدخل يتحسن بهدوء… ولكن دون أن يظهر على الأوراق
بعد جائحة كورونا، لم يستطع خالد العودة إلى وظيفة بدوام كامل، فاتجه إلى العمل في التوصيل عبر التطبيقات، مثل توصيل الطعام والطلبات. سجّل نفسه كسائق على إحدى المنصات المعروفة، وأصبح يعمل ساعات طويلة بسيارته القديمة. جزء من دخله يأتي عبر التطبيق نفسه ويظهر في كشوف الحساب البنكي، لكن جزءًا آخر يرتبط بـ «شغل إضافي» يعرضه عليه بعض المطاعم العربية والدكاكين:
- توصيل طلبات كاش مباشرة للزبائن مقابل مبلغ ثابت في اليوم.
- مساعدة في تحميل البضاعة أو تنظيف المكان آخر الليل مقابل أجر نقدي لا يمرّ عبر النظام.
في الوقت نفسه، بدأت أمينة تُعدّ وجبات منزلية للأسر العربية العاملة حتى وقت متأخر، وتبيعها عبر جروبات فيسبوك. الزبائن يدفعون كاش عند الاستلام أو يرسلون المبلغ عبر تطبيقات مثل «زِل» (Zelle) أو «فينمو» (Venmo). كانت تقول لنفسها: «هذا شغل من البيت، أساعد به زوجي… المبالغ ليست كبيرة، ولن تغيّر شيئًا».
عندما جاء موعد إعادة التقييم السنوي للمساعدات، ملأت أمينة الاستمارات كما اعتادت، وكتبت الدخل الذي يردّ لها على الورق الرسمي من عمل خالد عبر التطبيق، ولم تذكر تفاصيل الشغل الكاش أو أرباح المطبخ المنزلي، ظنًّا منها أن «هذه أمور بسيطة، ولسنا شركة كبيرة حتى نُدخل كل شيء في الحساب».
مفاجأة المكتب: الأرقام لا تطابق ما صرّحت به الأسرة
في اليوم المحدد للمقابلة، جلست الأسرة أمام مكتب موظفة شابة تحمل ملفًا سميكًا. بعد أسئلة روتينية عن عدد الأطفال وأسمائهم، فتحت الموظفة الملف وأخرجت أوراقًا بدا عليها أنها من جهات مختلفة. قالت بنبرة رسمية:
«لدينا بيانات عن الدخل من مصادر أخرى، ولا تتطابق مع ما صرّحتم به في طلب المساعدات».
وضعت أمامهما نسخة من سجلات دخل خالد من منصة التوصيل، التي أرسلت تلقائيًّا معلومات إلى الولاية، بالإضافة إلى كشوفات بنكية تظهر إيداعات متكررة من تطبيقات الدفع، وتحويلات نقدية كثيرة. لم تكن الأرقام فلكية، لكنها أعلى بكثير مما سبق أن ذكره الزوجان في استمارة الفوود ستامب وميدكيد.
حاول خالد أن يشرح أنه يخسر كثيرًا في البنزين وصيانة السيارة، وأنه يعمل لساعات طويلة ليعادل ما يظلّ له صافيًا، وأن ما يدخل الحساب لا يعني بالضرورة أنه “ربح حقيقي”. لكن الموظفة كرّرت بهدوء:
«الأنظمة تنظر إلى الدخل الإجمالي قبل خصم المصاريف، وأنتم ملزمون قانونيًا بالإبلاغ عن أي زيادة في الدخل خلال فترة محددة، وليس فقط عند تجديد الطلب».
ثم أضافت، وهي تشير إلى فقرة في الورقة الرسمية:
«عدم الإبلاغ عن الدخل أو التقليل منه يمكن أن يُعتبر استلامًا غير مستحق للمنافع، وقد نضطر للمطالبة باسترجاع جزء من المبالغ أو اتخاذ إجراءات أخرى، بحسب ما يثبته التحقيق».
الخوف من كلمة «احتيال» يخيّم على الأسرة
عادت أمينة إلى البيت وهي تشعر بمزيج من الخجل والذعر. لم تكن تظن نفسها «تحتال» على أحد. في نظرها، هي فقط أم تحاول أن تطعم أطفالها، وزوج يعمل ليل نهار ليضمن لهم مستقبلًا أفضل. لكنها أدركت الآن أن النظام لا يُقيّم النيات، بل الأرقام والسجلات.
بدأ خالد يسأل أصدقاءه: ماذا يعني أن يُطلب منهم ردّ مبالغ؟ هل يمكن أن يؤثّر ذلك على طلبه المستقبلي للجنسية؟ هل يمكن أن تتحوّل القضية إلى ملف جنائي؟ بعضهم هوّن الأمر، وبعضهم حذّره من الاستهتار. زادت الحيرة، وبقيت الأسرة معلّقة بين خوف من أن تفقد المساعدة التي تعتمد عليها، وخوف أكبر من أن يُنظَر إليهم على أنهم «كاذبون في أوراقهم».
أين يخطئ كثير من المهاجرين العرب في التعامل مع فوود ستامب وميدكيد؟
قصة أمينة وخالد ليست حالة منفصلة، بل نموذج يتكرر بأشكال مختلفة بين الأسر المهاجرة. كثيرون يقعون في أخطاء شائعة، من أبرزها:
- الاعتقاد أن «الشغل الكاش» لا يُحسب: في حين أن القاعدة العامة أن معظم أنواع الدخل، سواء نقدية أو عبر التطبيقات، يجب الإبلاغ عنها.
- فصل «العِزومة» عن «البيع»: بعض النساء يعتبرن بيع الطعام المنزلي «خدمة للأصدقاء» وليست دخلًا حقيقيًا، بينما الجهات المسؤولة تنظر إلى العائد المالي بغضّ النظر عن شكله.
- الانتظار حتى موعد التجديد السنوي: بينما كثير من البرامج تشترط الإبلاغ عن أي تغيير في الدخل خلال فترة قصيرة (مثل 10 أو 30 يومًا) من حدوثه.
- الاعتماد على نصائح الأقارب والجيران بدلًا من قراءة التعليمات: فيقول أحدهم: «ما تقلقش، الكاش محدش يعرف عنه»، وهذا تصور قديم لا ينسجم مع أنظمة الربط الإلكتروني الحديثة بين الجهات المختلفة.
نصائح عملية للأسر العربية للاستفادة من المساعدات دون مخاطر
حتى تستفيد الأسر العربية من برامج مثل فوود ستامب وميدكيد بطريقة آمنة، يمكن مراعاة النقاط التالية:
- قراءة الأوراق بعناية: كل خطاب من الجهة المسؤولة يحتوي على تعليمات واضحة حول ما يجب الإبلاغ عنه، ومتى، وكيف.
- تسجيل الدخل في دفتر بسيط: سواء كان من عمل بالتطبيقات أو من بيع أكل منزلي، يساعد هذا في معرفة المتوسط الشهري وعدم التقليل أو التضخيم أمام الموظف.
- عدم تجاهل أي رسالة رسمية: تجاهل الخطابات أو التأخر في الرد قد يجعل الوضع أكثر تعقيدًا من الناحية الإدارية.
- طلب مساعدة مترجم أو مستشار: كثير من المنظمات المجتمعية تقدّم مساعدة مجانية أو منخفضة التكلفة لشرح الاستمارات ومرافقة المتقدّمين في المقابلات.
- عدم التوقيع على أي ورقة لا تُفهم جيدًا: يمكن طلب وقت لمراجعتها أو استشارة مختص قبل الإقرار بمعلومات قد تكون غير دقيقة.
الخلاصة: التوازن الصعب بين الحاجة والالتزام بالقانون
ما بين ضيق الحال وتعقيدات النظام، تقف أسر كثيرة مثل أسرة أمينة وخالد في منطقة رمادية: لا يريدون مخالفة القانون، لكنهم لا يعرفون دائمًا أين تبدأ المخالفة وأين تنتهي. في الوقت الذي توفّر فيه برامج مثل فوود ستامب وميدكيد طوق نجاة حقيقيًّا للأسر ذات الدخل المحدود، فإن الجهل بالتفاصيل الخاصة بالإبلاغ عن الدخل يمكن أن يحوّل هذا الطوق إلى مصدر قلق دائم.
لا توجد وصفة واحدة تناسب جميع الحالات، لكن المؤكد أن الصراحة المبكرة مع الجهات المسؤولة، وطلب المشورة عند الشك، أفضل بكثير من السكوت ثم محاولة الإصلاح بعد أن يصبح الملف «قضية تحقيق». ففي بلد تُسجَّل فيه كل حركة تقريبًا في نظام إلكتروني، يصبح التعامل مع الحقيقة بمرونة أقل كثيرًا من التعامل معها على الورق.






