الجالية العربية

أقارب كالعقارب: غيرة عائلية كادت تمزّق أسرة مصرية في أمريكا

تحوّل خلاف عائلي بسيط داخل الجالية المصرية في إحدى ضواحي ولاية نيوجيرسي إلى كابوس كامل لأسرة مهاجرة، بعدما تحوّل تهديد عابر بإبلاغ خدمات حماية الطفل في الولاية إلى بلاغ رسمي كاد يتسبب في تفريق أسرة مصرية وسحب طفليها من المنزل، قبل أن تتكشف الصورة الحقيقية في النهاية ويتبيّن أن البلاغ كيدي ولا يستند إلى أي وقائع حقيقية.

أسرة مصرية تبحث عن الاستقرار… قبل أن يطرق مجهول باب حياتها

تعيش أسرة مصرية مكوّنة من الأب أحمد وزوجته مريم وطفليهما ليان (8 سنوات) وعُمر (4 سنوات) في شقة متواضعة بإحدى ضواحي نيوجيرسي. يعمل أحمد سائقاً في تطبيقات التوصيل، يقضي ساعات طويلة خارج المنزل لتأمين الإيجار والفواتير، بينما تعمل مريم بدوام جزئي في محل خياطة عربي قريب، بحيث تتمكّن من البقاء مع الأطفال معظم الوقت.

ورغم أن الأسرة تعيش تحت ضغط مادي واضح، فإن حياتها اليومية كانت تبدو «طبيعية» بالنسبة لأسرة مهاجرة: الأطفال مواظبون على المدرسة، والبيت – وإن لم يكن في أفضل حالاته – إلا أنه نظيف بالحد الأدنى، والطعام متوفر، ولا توجد أي سوابق عنف أو مشكلات جنائية داخل المنزل.

خصام مصري–مصري يتحوّل إلى تهديد صريح بسلاح البلاغات

في بدايات وجودها بأمريكا، كانت مريم تعتمد على إحدى قريباتها المصريات، تُدعى سارة، للمساعدة في الترجمة وإنجاز بعض الأوراق الرسمية، بحكم خبرة سارة الأقدم في الحياة بأمريكا. ومع مرور الوقت، بدأت مريم تتعلم الاعتماد على نفسها، وتقلّ حاجتها إلى تدخل القريبة في كل صغيرة وكبيرة، ما ولّد شعوراً مكتوماً بالغيرة والضيق لدى سارة، التي رأت في ذلك تهميشاً غير مباشر لدورها.

في إحدى المحادثات عبر تطبيق المراسلة، تصاعد خلاف مالي بسيط حول مبلغ صغير، لكن النقاش خرج سريعاً عن حدود الموضوع الأصلي، وانتهى بتبادل عبارات قاسية. وفي ذروة الغضب، كتبت سارة رسالة تهديد واضحة تقول فيها إنها «ستعرّف مريم يعني إيه CPS» وإنها «ستجعلهم يأخذون العيال من البيت». ورغم أن سارة سارعت بعد دقائق إلى حذف الرسالة، فإن مريم كانت قد التقطت صورة للشاشة واحتفظت بها.

لم تتخيّل الأسرة أن هذه الجملة الانفعالية، الخارجة من قريبة يفترض أنها «من لحم ودم»، يمكن أن تتحوّل من مجرد تهديد عائلي إلى خطوة عملية تحمل كل ملامح الانتقام، وتفتح باب تحقيق رسمي مع أسرة مصرية لا تملك سوى لقمة العيش وهدوء بيتها البسيط.

بلاغ مجهول بتفاصيل دقيقة يشعل التحقيق

بعد نحو أسبوعين من تلك المشادّة، تلقّى خط البلاغات الخاص بخدمات حماية الطفل اتصالاً من مجهول ادّعى أنه يعيش قريباً من أسرة «شرق أوسطية» يسمع من منزلها صراخ الأطفال باستمرار، ويعتقد أنّ الأب يضربهم بشدة، كما زعم أنّ الأم تترك الأطفال وحدهم في المنزل لساعات طويلة من أجل الذهاب إلى العمل.

المبلّغ لم يستخدم عبارات عامة مبهمة، بل قدّم للموظف عنواناً كاملاً للشقة، وأسماء تقريبية للأطفال، ومواعيد تقريبية لعمل الأب والأم، وهي تفاصيل لا يعرفها عادة سوى شخص مقرّب من الأسرة، وليس مجرد جار عابر. وبحسب الإجراءات المعمول بها في معظم الولايات الأمريكية، فإن هذا النوع من البلاغات – الذي يجمع بين ادعاءات الإهمال والعنف الجسدي – لا يمكن تجاهله، ويُلزم الجهة المختصة بفتح تحقيق أولي وزيارة ميدانية للمنزل للتثبت من سلامة الأطفال.

زيارة مفاجئة من الـ CPS والشرطة تقلب حياة الأسرة رأساً على عقب

في ظهيرة يوم إثنين عادي، كانت مريم في المنزل مع ليان وعُمر عندما سمعت طرقاً قوياً على الباب. وعند السؤال عن الطارق، جاءها الرد بأنهم من خدمات حماية الطفل، وبصحبتهم شرطي من قسم الشرطة المحلي، وأنهم بحاجة إلى الدخول والتأكد من سلامة الأطفال على خلفية بلاغ ورد إليهم.

سمحت مريم بدخول الموظفة والشرطي وهي في حالة ارتباك شديد لا تخطئه العين. طلبت الموظفة توفير مترجم عربي عبر الهاتف، وهو ما تم خلال دقائق، ثم بدأت جولة سريعة في المنزل: ألعاب متناثرة في الصالة، بعض الأطباق في الحوض، لكن لا نفايات متراكمة، ولا أدوات خطرة في متناول الأطفال، ولا ما يُشير إلى تعاطي مخدرات أو وجود سلاح.

بعد ذلك، تحدّثت الموظفة مع مريم من خلال المترجم، وطرحت أسئلة عن من يعيش في البيت، ومن يعتني بالأطفال، وما إذا كانت تتركهم وحدهم، وما طبيعة تعامل الأب معهم. أجابت مريم بوضوح وثبات قدر الإمكان، موضحة أن جارتهما المصرية الكبيرة في السن تجلس مع الأطفال في فترات عملها القصيرة، وأن الصراخ في المنزل لا يتجاوز حدود الانفعال العادي مع الأطفال، وليس عنفاً منهجياً أو ضرباً مبرحاً.

ثم طلبت الموظفة التحدث مع كل طفل على حدة، في غرفة منفصلة، مع بقاء الشرطي داخل الشقة خارج الغرفة. أجابت ليان بأن والدَيها يرفعان صوتهما أحياناً عندما تعمّ الفوضى، لكنها لم تتحدث عن ضرب بعصي أو أدوات، بينما أشار عُمر إلى أن والده يصرخ أحياناً عندما يبعثر الطعام، دون أن يذكر أي ضرب عنيف متكرر.

دوّنت الموظفة ملاحظاتها عن نظافة الأطفال وعدم وجود آثار ضرب ظاهرة أو خوف غير طبيعي منهم تجاه الوالدين، لكنها أوضحت لمريم أن الملف لن يُغلق من أول زيارة، وأن التحقيق سيستمر عبر مراجعة سجلات المدرسة والطبيب وربما زيارة أخرى للمنزل، وهو ما زاد من قلق الأسرة المصرية التي لم تكن تتوقع أن تصل خلافات الأقارب إلى هذا المستوى.

من الصدمة إلى التنظيم: المصريان يواجهان العاصفة بهدوء

بعد مغادرة موظفة الـ CPS والشرطي، اتصلت مريم بزوجها لتخبره بما حدث. عاد أحمد على الفور، واطّلع على التفاصيل، ثم ربط بين ما جرى وبين تهديد سارة السابق باللجوء إلى هذه الجهة. ومع أنه لم يكن يملك دليلاً مباشراً على أن القريبة هي صاحبة البلاغ، فإن التفاصيل الدقيقة التي أُعطيت عن الأسرة عزّزت شكوكه بأن «العقرب» خرج من قلب العائلة.

قرر أحمد أن يتصرف بعقلانية، فاتصل بمكتب للمساعدة القانونية في المنطقة للحصول على استشارة سريعة. المحامي أوضح لهما أن الـ CPS ملزمة قانوناً بالتحقيق في أي بلاغ يصلها، حتى لو تبيّن لاحقاً أنه كيدي، ونصحهما بالهدوء والتعاون الكامل، وعدم توقيع أي أوراق لا يفهمان مضمونها، والحرص على توثيق كل ما يدل على استقرار الأطفال وسلامتهم.

خلال الأيام التالية، جمعت الأسرة كل ما تملك من أوراق رسمية: شهادات تطعيم الأطفال، كروت التأمين الصحي، كشوف حضور المدرسة، عقد الإيجار، إضافة إلى صور محدثة للمنزل بعد ترتيبه، تمهيداً لأي زيارة جديدة أو طلب من الجهات الرسمية.

المدرسة والطبيب والجارة المصرية: الحقيقة تفرض نفسها

بالتوازي مع ذلك، بدأت موظفة الـ CPS استكمال التحقيق. تواصلت مع مدرسة ليان لسؤال الأخصائية الاجتماعية هناك عن أي ملاحظات تتعلق بنظافة الطفلة أو وجود كدمات متكررة أو شكاوى سابقة عن عنف في المنزل. ردت المدرسة بأن ليان طالبة هادئة، وأن حضورها الدراسي جيد، ولم تُسجَّل بحقها أي ملاحظات تشير إلى عنف أسري أو إهمال واضح.

كما طلبت موظفة الـ CPS من الأسرة أن تصحب الأطفال إلى طبيب الأطفال لإجراء فحص روتيني وإرسال تقرير للجهة المختصة. أجرى الطبيب الفحص، وثبّت في تقريره عدم وجود آثار ضرب أو سوء تغذية أو أي مؤشرات طبية على إهمال مزمن. هذا التقرير الطبي، إلى جانب سجل المدرسة، شكّلا حجر أساس في إظهار الصورة الحقيقية لوضع الأسرة.

وخلال الزيارة الثانية للمنزل، ذكرت مريم اسم جارتها المصرية التي تجلس غالباً مع الأطفال أثناء ذهابها للعمل. وبعد الحصول على موافقة الأسرة، تواصلت الموظفة مع الجارة، التي قدّمت شهادة واضحة قالت فيها إن الأم لا تترك الأطفال وحدهم، وإنها هي التي تتولى رعايتهم في الأوقات التي تغيب فيها عن المنزل، وإن الأسرة – رغم ضيق الحال – تحرص على طعامهم ونظافتهم وحضورهم المدرسي.

هذه الشهادات المتطابقة من المدرسة والطبيب والجارة المصرية، وضعت البلاغ في سياقه الحقيقي، وكشفت للموظفة أن الرواية التي حملها الاتصال المجهول لا تتفق مع الواقع اليومي الذي يعيشه الأطفال داخل هذه الأسرة.

إشارة إلى البلاغ الكيدي… وجرح لا يلتئم سريعاً

خلال الزيارة الثانية، حضر أحمد إلى جانب مريم، بينما شارك المحامي عبر مكالمة هاتفية. شرحت الموظفة للأسرة أن البلاغ جاء من شخص مقرّب يعرف تفاصيل حياتهم، دون أن تفصح عن أي اسم التزاماً بقواعد السرية.

قدّم أحمد نسخة مطبوعة من صورة الشاشة التي تُظهر تهديد القريبة المصرية باللجوء إلى البلاغ كوسيلة انتقام بعد المشادّة، موضحاً أن الأسرة تشك بقوة في أن الدافع ليس حماية الأطفال، بل تصفية حسابات شخصية. وأوضحت الموظفة أن قطاع حماية الطفل يتلقى بالفعل بلاغات كيدية أحياناً، لكن القانون يلزمها على أي حال بالتحقق من البلاغ والتأكد من سلامة القاصرين، وأن دورها ليس معاقبة الأهل بقدر ما هو تقييم وضع الأطفال.

بعد استكمال الزيارات والمراجعات، تلقت الأسرة اتصالاً من موظفة الـ CPS يفيد بأن التحقيق انتهى إلى عدم وجود أدلة على الإهمال أو العنف، وأن البلاغ سيُغلق كـ «غير مثبت»، وأنه لن تُتخذ أي إجراءات إضافية بحق الوالدين، ولن يُسحب الأطفال من البيت. تنفّست مريم الصعداء، وبكى أحمد من شدّة التوتر الذي عاشته الأسرة المصرية خلال الأسابيع السابقة.

لكن الضرر المعنوي داخل العائلة لم يكن سهلاً؛ فقد قرر الزوجان قطع العلاقة بالكامل مع القريبة التي هددت بالبلاغ ثم يُرجَّح أنها نفذته، ورفض أي تواصل بينها وبين الأطفال، مع الاحتفاظ بكل المستندات والرسائل في حال تكرار أي محاولة تشويه أو إيذاء قانوني في المستقبل. بالنسبة لأحمد ومريم، لم تعد «القريبة» مجرد فرد من العائلة، بل أصبحت نموذجاً لقول المصريين: «بعض الأقارب كالعقارب».

دروس وعِبر للأسر المصرية والعربية في أمريكا

تكشف هذه القصة عن مجموعة من الدروس العملية المهمة للأسر المصرية والعربية في الولايات المتحدة:

  • أولاً: القرابة ليست مبرراً لتحويل القانون إلى أداة انتقام
    التهديد باستخدام البلاغات في خلافات الأقارب تصرّف خطير أخلاقياً وقانونياً؛ لأن ثمنه يدفعه الأطفال أولاً، ويمكن أن يضع الأسرة البريئة تحت مجهر التحقيق لمجرد نزوة غضب أو غيرة.
  • ثانياً: أي بلاغ يُؤخذ على محمل الجد
    الموظفون ملزمون بالتحقيق في كل بلاغ يتضمن اتهاماً بالإهمال أو العنف، حتى لو تبيّن لاحقاً أنه كيدي، ما يعني أن الأسرة المستقيمة قد تجد نفسها فجأة في قلب ملف رسمي بسبب مكالمة من قريب حاقد.
  • ثالثاً: الهدوء والتنظيم أفضل سلاح للمهاجر
    التعاون الهادئ، وطلب مترجم معتمد، والاستعانة بمحامٍ، وتجهيز الأوراق الرسمية (تقارير المدرسة والطبيب وعقد الإيجار) كلها عناصر تحمي الأسرة وتُظهر الصورة الحقيقية أمام الجهات الرسمية، وتمنع استغلال جهل المهاجر بالقانون.
  • رابعاً: الأوراق «الروتينية» هي درعك عند الأزمات
    التطعيمات المنتظمة، حضور المدرسة، المراجعات الطبية الدورية، ليست مجرد روتين ثقيل، بل قد تصبح دليلاً ملموساً على أن الأسرة المصرية أو العربية تقوم بواجباتها ولا تهمل أبناءها.
  • خامساً: الحذر في مشاركة تفاصيل حياتك مع من لا يستحق
    إدخال أشخاص غير موثوقين في أدق تفاصيل الحياة اليومية – من مواعيد العمل إلى ظروف السكن – يفتح الباب أمام استخدام هذه المعلومات في بلاغات كيدية أو تهديدات مؤذية. ليس كل قريب أهل ثقة، وبعض الأقارب قد يكونون فعلاً «كالعقارب».
  • سادساً: تعرّف على حقوقك قبل أن تحتاج إليها
    من حق الأسرة طلب مترجم، ومن حقها رفض توقيع أي مستند لا تفهمه، ومن حقها إضافة بيان مكتوب في ملفها لدى الجهة المختصة يوضّح وجهة نظرها. معرفة هذه الحقوق مسبقاً تجعل التعامل مع أي تحقيق أكثر أماناً وأقل رعباً.

في النهاية، تذكّر هذه القصة الأسر المصرية والعربية في أمريكا بأن الاستقرار العائلي لا يعتمد فقط على العمل والمال والسكن، بل أيضاً على وعي قانوني يحميها من سُمّ الغيرة العائلية، ومن بعض الأقارب الذين قد يتحوّلون – عند أول خلاف – إلى عقارب مسمومة تستخدم القانون سلاحاً ضد أقرب الناس إليها.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى