وكالات / نيويورك تايمز
صارت المدينة الكبيرة المزدحمة أكثر ضجيجا وصخبا مما كانت عليه الأوضاع منذ فترة ليست بالقصيرة من الزمن – وبدا أن جميع سكانها قد عقدوا العزم على تجاوز كافة الحدود والقيود المعتادة للحياة فيها. وتنطلق الدراجات العادية والبخارية بين مختلف شوارع المدينة غير عابئة بإشارات المرور أو قواعد السير المعروفة، وشرعت المطاعم في احتلال نصيبها من الأرصفة الخارجية على أمل منها في الحفاظ قدر الإمكان على أعمالها ومعايش عمالها.
وفي نفس السياق، يعد التسوق لشراء أي شيء غير الاحتياجات الأساسية في الأوقات الراهنة يشعرك باقتراب وشيك من حد الحماقة المفعم باللامسؤولية. ولا زلت أذكر تجربة شرائي لآخر قطعة من الملابس التي تخيرت ابتياعها قبل دخول الحجر الصحي الافتراضي – تلك التجربة التي أخجل كثيرا من مجرد ذكرها بين سطور مقالتي هذه. وحتى اليوم، ومع عودة المتاجر والمحلات إلى سابق عهدها من العمل والنشاط، فإن تلك الرعشة الخفيفة التي تنتاب أحدنا عند محاولة شراء مختارات من الملابس الجديدة تغتالها وعلى الفور قطيرات العرق المزعجة التي تتجمع رغما عنك وراء كمامتك الواقية ولا بد.
تلك هي نفس التحديات التي يحاول دعاة التسوق في الهواء الطلق تناولها والتعامل معها بصفة يومية، وبرغم ذلك، وعلى مدار الأسابيع القليلة الماضية، تمكنت من المرور عبر العديد من أسواق السلع والبضائع المستعملة التي عادت مرة أخرى إلى العمل في المدينة وغير ذلك من محاولات المبيعات على قارعة الطرقات. وحتى في ظل المعروضات المحدودة للاختيار من بينها، يعد التسوق في الهواء الطلق انعكاسا لنوع من الراحة المفقودة، وفرصة سانحة لتغيير المشاهد الرتيبة، فضلا عن كونها خطوة مؤقتة نحو إعادة التلاقي مع المجتمع، ناهيكم عن معاينة الأشياء الجديدة بكل تأكيد.
في يونيو (حزيران) الماضي، ومع الاضطرابات التي ذاع صيتها في كافة أرجاء البلاد وبلغت حدودا غير مسبوقة، لاحظت مقطعا مرئيا على منصة إنستغرام يُعلن عن بيع في الشارع بالقرب من حديقة «ماكغولريك» في حي «غرين بوينت» في بروكلين بمدينة نيويورك. كانت عرض «بي إل إم» لمبيعات الرصيف أشبه ما يكون بتجربة التسوق المنفتحة على الجميع، فضلا عما أدركناه لاحقا من أهدافها الخيرية. ما زلت على غير استعداد حقيقي لتجاوز القيود، لكن عندما ساقتني قدماي إلى إحدى عروض المبيعات «الرصيفية»، والتي ظلت مستمرة طوال فصل الصيف وأوشكت لتوها على الانتهاء – كانت كل مُبايعة منها تعكس إعلانا رائعا من فئة فيديوهات «افعله بنفسك أولا» على منصة إنستغرام – وكان من المحفز للغاية أن نرى البائعين والحضور من الجماهير ملتزمون بارتداء كمامات الوجه الواقية مع الحفاظ على مسافات التباعد الاجتماعي التي يسمح بها التواجد على الرصيف مع بائع التجزئة في الهواء الطلق.
وإجمالا للقول، نجحت تلك المبيعات في جمع أكثر من 265 ألف دولار لصالح العديد من الجمعيات والمؤسسات الخيرية، فضلا عن المشاريع المحلية المتعثرة ماليا، في عرض مثير للذهول من الاحترام، واللباقة، بأساليب مفعمة بالبراعة، والجرأة، والإقدام. وإن كانت هناك من وسيلة لأن نجعل من عرض «بي إل إم» لمبيعات الرصيف فعالية منتظمة ومستمرة، فيمكن وبكل سهولة تحويلها مع مرور الوقت إلى مؤسسة من المؤسسات المعترف بها في مدينة نيويورك للأعمال الخيرية.
بمعنى آخر، يمكن لمثل هذا العرض المفتوح أن يستمر جنبا إلى جنب مع بعض من الأسواق المعروفة في المدينة والتي تمكنت في الآونة الأخيرة من استئناف أعمالها بعد فترات من التوقف المطولة. فلقد عاد سوق «تشيلسي» المفتوح للسلع المستعملة – والواقع في غرب شارع 25 بين الجادة الخامسة والسادسة في مدينة نيويورك – إلى العمل مرة أخرى، عارضا مزيجه المألوف من معروضات الأثاث، والأعمال الفنية، والملبوسات القديمة. وكان أكثر ما لفت نظري وأثار اهتمامي في هذه السوق المفتوحة هو بائع كتب الهندسة المعمارية مع نسخ قديمة من الروايات، والمسرحيات، ومواد وسط المدينة الثقافية، ومجلات السبعينات.
وهناك أيضا سوق «دامبو» للسلع المستعملة في حي بروكلين – الواقع أسفل جسر مانهاتن – والذي أعيد افتتاحه للعمل مؤخرا، ومن المرجح أن يعد أكثر أسواق السلع المستعملة المفتوحة طموحا في المدينة بأسرها. تجد في هذه السوق كميات غير معتادة ومثيرة للإعجاب الحقيقي من الملابس القديمة والمستعملة، وإن كان أغلبها مخصص لأجل النساء كما يبدو. وبعد مرور ساعة أو نحوها من التجوال بين طرقات ورفوف هذه السوق الرائعة، عثرت أخيرا على ما يمكن وصفه بالترضية النهائية للمتسوق الشغوف المفعم بالإحباط: كتاب يحمل عنوان «حقيبة التسوق: الفن المحمول» ويُباع بسعر لا يتجاوز 10 دولارات، ويحفل بالتصاميم الرائعة لمختلف حقائب السوق.
كنت دائما ما أفضل التجوال في معرض «هيستر ستريت فير» – الواقع في سيوارد بارك عند زاوية شارعي هيستر وإيسكس – على الجانب الشرقي السفلي من مدينة نيويورك، والذي يجذب في مجمله الشباب، وهو الأكثر انتقائية بين الأسواق المفتوحة الأخرى. وكنت قد قمت بزيارة هذا المعرض المفتوح خلال عطلة نهاية الأسبوع في الشهر الماضي أثناء فعالية المعروضات القديمة، وبعد فحص درجة حرارتي عند المدخل – وكان هو السوق المفتوح الوحيد الذي يلتزم بهذا الإجراء الاحترازي كما لاحظت – تمكنت من العثور على قميص صيفي باللون الأخضر على شكل إزميل الحفر وبسعر لا يتعدى 20 دولارا، وكان البائع هو السيد لورانس وودز الذي يشرف على حساب (@vanitythread) لفعالية السوق المفتوحة على منصة إنستغرام.
وكان الأمر الأكثر إثارة للدهشة حينها، أنني تقابلت مع صديقي القديم «ويليام»، والذي اشترك مع بعض الأصدقاء في كشك صغير في هذه السوق وكانوا يفرغون بعض الأغراض من خزائنهم. ولقد نجحت في إقناع صديقه «سكوت» بأن يبيع لي زوج من شورت موديل «نايكي إيه سي جي» الأصلي مقابل 20 دولارا فقط. (ولقد أسفر الوقت الذي قضيته هناك عن حضور معرض «كينفولك ديود» للسلع المستعملة والقديمة في حي ويليامزبيرغ في مدينة نيويورك).
يرجع الفضل في تلك التجربة الجميلة إلى الطقس اللطيف جزئيا، وجزئيا إلى ما أتصور أنه فصل الصيف الطويل الخاضع قسرا لإجراءات الحجر الصحي القاسية لمواجهة تجاوزات التسوق الشخصية من بعض المواطنين غير الملتزمين، سيما مع الفورة الملحوظة في مبيعات السلع المستعملة والقديمة التي يجري الإعلان عنها على الدوام عبر منصات إنستغرام وتيك توك، أو ربما عبر اللافتات المنشورة على أعمدة الإنارة المتناثرة في أرجاء حي ويليامزبيرغ.
ومع نهاية الأسبوع الماضي، شاهدت منشورا من قبل المصورة الفوتوغرافية الإنجليزية المحترفة «جانيت بيكمان»، والتي كانت وراء العديد من تصاوير الهيب هوب الرائعة والشهيرة في ثمانينيات القرن الماضي. وعندما وصلت إلى شارع بوند في مدينة نيويورك، لاحظت وجود عدد كبير من الطاولات التي تخصها وتخص عددا من أصدقائها مع وجود حشد غير قليل من الناس السعداء للغاية بتجاذب أطراف الحديث معهم. وشاهدت أحد الأصدقاء وهو يتفاوض بشأن أسعار القمصان الصيفية مع السيد «تشارلي أهيرن» – وهو مخرج فيلم «وايلد ستايل» الشهير من إنتاج عام 1982. كما قمت بنفسي بشراء أحدث مجموعة من الكتب القصصية الصغيرة من السيدة «جانيت بيكمان» لقاء 10 دولارات فقط، فضلا عن رزنامة كبيرة من الصور الرائعة التي التقطت في مهرجان «وودستوك» في عام 1999 بواسطة المصور «مايك شرايبر» والتي تكرمت بالتوقيع عليها.
وبعد ذلك، توجهت إلى وسط المدينة من أجل زيارة سوق «تشاد سينزل» المفتوح. وقبل ذلك بأسبوع واحد، تمكنت من الالتقاء مع السيد سينزل شخصيا عندما كان يباشر البيع والتفاوض من رف يملكه في سوق «دامبو» للسلع المستعملة في بروكلين، وابتعت منه قميصا شتويا منقوشا من طراز «تومي هيلفيغر» لقاء 25 دولارا. وعلى غرار الكثيرين ممن شهدوا فورة أنظمة بروسيل العلاجية، تحول السيد سينزل والسيد وودز إلى التخصص في الملبوسات المستعملة والقديمة من تسعينيات القرن الماضي وأوائل القرن الحالي، ومن بينها: قمصان الفرق الموسيقية الصيفية، والتسجيلات الموسيقية القديمة، والتصاميم العتيقة غير مكتملة الصنع.
لكن في هذه المرة، كان يتعاون مع بائع آخر في السوق هو السيد «كول ستار»، مع ترتيب ارتجالي لرفوف البيع في شارع «أوركارد» على مسافة قصيرة من محل «سكار» للبيتزا وعند الزاوية القريبة من ساحة «دايمز» للتزلج. ولقد لفت انتباهي قطعة جميلة كان السيد «ستار» يقوم ببيعها وهي عبارة عن قميص بولو يرجع لتسعينيات القرن الماضي مع طباعة تصور رجال يرتدون ملابس أنيقة من حقبة الخمسينيات مقابل 45 دولارا.
ولقد حاولت ارتداء ذلك القميص، والتقط السيد سينزل بعض الصور لي بهاتفي المحمول، وكنت أطالع صورتي المنعكسة على نافذة إحدى السيارات المجاورة. كانت تلك السوق تحمل الكثير من سمات التسوق المتميزة، مع النذر اليسير من المصادفات، مع خدمة الزبائن المنضبطة للغاية، فضلا عن الإحساس الرائع بأنه يمكنك الحصول على أشياء قد لا ترى مثيلا لها في أي مكان آخر. وإنها تفي بالغرض في الآونة الراهنة.