الجالية العربية

شغل أونلاين «سهل» يحوّل مهاجرًا عربيًا في أمريكا إلى متهم محتمل في قضية غسل أموال

لم يكن «ياسر»، الشاب العربي الذي يعمل في غسل الصحون بأحد المطاعم في نيوجيرسي، يتخيّل أن إعلانًا صغيرًا على فيسبوك بعنوان: «وظيفة سهلة من البيت.. دخل إضافي مضمون» سيغيّر حياته في شهور قليلة، ويضع اسمه فجأة في قوائم المراقبة البنكية وشركات تحويل الأموال.

كان ياسر يعود كل ليلة منهكًا من عمله، يتحمّل الساعات الطويلة على أمل أن يدّخر شيئًا بسيطًا يرسله لأسرته في بلده عبر محلات التحويل و«ويسترن يونيون». لكن الغلاء، والإيجار، وفواتير الكهرباء، جعلت راتبه بالكاد يكفي. لذلك، عندما قرأ الإعلان الذي يعد بمائتي دولار أسبوعيًا مقابل «استلام وتحويل بعض المدفوعات»، لم يتردّد كثيرًا. ضغط على زرّ «راسلنا الآن» ظنًّا منه أنه أخيرًا وجد «رزقًا إضافيًا» بلا تعقيدات.

البداية: وظيفة أونلاين تبدو بريئة

تواصل معه شخص يعرّف نفسه بأنه يعمل في «شركة تجارة إلكترونية خارج أمريكا»، ويحتاج إلى أشخاص داخل الولايات المتحدة يساعدونه في تسهيل المدفوعات. الفكرة كما شرحها له تبدو بسيطة:

  • يستقبل ياسر مبالغ على حسابه البنكي من عملاء داخل أمريكا.
  • يسحب الأموال نقدًا من الصرّاف الآلي أو من الفرع.
  • يذهب إلى أقرب محل تحويل أموال أو «ويسترن يونيون» ويرسل المبلغ إلى أسماء يرسلها له صاحب العمل.
  • يحتفظ بعمولة ثابتة عن كل عملية، تتراوح بين 50 و100 دولار.

بالنسبة لشاب لا يتقن الإنجليزية جيدًا ولا يملك أوراق عمل كاملة، بدا الأمر «خدمة بسيطة» لا تحتاج إلا إلى الذهاب للمحل مرتين أو ثلاثًا في الأسبوع. لم يطلب منه أحد توقيع عقد، ولم يُسأل عن وضعه القانوني في البلد. كل شيء يتم عبر رسائل على الواتساب، وتحويلات تدخل وتخرج في هدوء.

من معروف لصديق… إلى نمط مشبوه في عيون البنوك

في البداية كانت المبالغ صغيرة؛ 300 أو 400 دولار تدخل لحسابه ثم يرسلها في اليوم نفسه. لكن مع مرور الأسابيع، بدأت الأرقام تكبر:

  • تحويلات من أشخاص لا يعرفهم، من ولايات لم يسمع بأسمائها من قبل.
  • سحب نقدي متكرر من أجهزة الصرّاف، أحيانًا أكثر من مرة في اليوم.
  • زيارات متكررة لمحلات تحويل الأموال، كل مرة إلى اسم جديد ودولة جديدة.

بالنسبة لياسر، هو فقط «يساعد شخصًا يعمل في التجارة الإلكترونية» ويحصل على عمولة تعينه على مصاريف الحياة. لكن بالنسبة للبنك، أصبحت حركة الحساب لا تشبه حياة عامل مطعم براتب متواضع، بل حسابًا يُستخدم كنقطة عبور لأموال متعدّدة المصادر والوجهات.

أما موظف التحويل في المحل الصغير الذي اعتاد ياسر الذهاب إليه، فقد بدأ يلاحظ أنه يعود كل أسبوع تقريبًا بمبالغ أكبر، ويرسلها إلى أشخاص لا يحملون لقب العائلة نفسه ولا يبدو أنهم أقاربه. بعضهم في دولة، وبعضهم في أخرى.

اللحظة التي انهار فيها كل شيء

في أحد الأيام، دخل ياسر إلى المحل المعتاد حاملاً ظرفًا ممتلئًا بالنقود. قدّم بطاقته وشهادة هويته كالمعتاد، وملأ نموذج التحويل لشخص جديد في بلد جديد. لكن هذه المرة، بدت على وجه الموظف ملامح تردّد، ثم قام من مكانه ليهمس مع زميلته خلف الكاونتر.

عاد الموظف بعد دقائق وقال له بهدوء مصطنع: «المعاملة دي مش هتتم.. النظام رفضها». حاول ياسر أن يفهم: «إزاي؟ الفلوس من شغلي، وأنا باحوّل كل أسبوع!». اكتفى الموظف بجملة مبهمة: «الشركة طالبة مراجعة لبعض التحويلات.. مش بإيدي».

في المساء، تلقّى اتصالًا من البنك يخبره بأن حسابه «خاضع للمراجعة»، وأنه لن يستطيع سحب أي مبالغ لحين التواصل مع قسم الامتثال وتقديم توضيحات عن بعض العمليات. لم ينم تلك الليلة. تخيّل الشرطة تقتحم بيته، وتخيّل اسمَه مرتبطًا بكلمة «غسل أموال»، وتخيّل الأهم من ذلك: كيف سيدفع إيجار الشقة إذا بقي الحساب مجمّدًا؟

كيف ترى البنوك وشركات التحويل هذه الأنماط؟

كي نفهم ما حدث مع ياسر، يجب أن نعرف أن البنوك وشركات التحويل الدولية ملزَمة بقوانين صارمة لمراقبة حركة الأموال عبر الحدود. هذه الجهات تعتمد على أنظمة ذكية ترصد الأنماط غير الطبيعية، مثل:

  • شخص ذو دخل محدود يستقبل مبالغ متكررة من أشخاص لا علاقة عائلية واضحة بينهم وبينه.
  • سحب نقدي سريع لكل ما يدخل الحساب دون ترك رصيد يُذكر.
  • تحويلات متكررة إلى دول أو مناطق تُعتبر عالية المخاطر.
  • استخدام حساب شخصي كأنه ممر لأموال عشرات الأشخاص الآخرين.

عندما تتكرر هذه المؤشرات، تقوم البنوك وشركات التحويل بإجراءات احترازية: تجميد الحساب مؤقتًا، رفض بعض العمليات، أو إرسال تقارير سرية للجهات الرقابية. من وجهة نظر القانون، قد لا يكون ياسر «زعيم عصابة»، لكنه قد يُصنَّف كـ«بغل أموال» (Money Mule)، أي شخص يُستخدم لنقل الأموال وإخفاء مصدرها مقابل عمولة.

ما هو «بغل الأموال» Money Mule؟

مصطلح «بغل الأموال» لا يعني أن الشخص مجرم محترف بالضرورة؛ كثيرون يقعون في هذا الفخ بحسن نية. الفكرة ببساطة أن:

  • جهات مشبوهة أو أفراد يستقبلون أموالًا بطرق غير مشروعة (احتيال، قرصنة، تجارة غير قانونية…).
  • لا يريدون تحويل هذه الأموال مباشرة من حساباتهم حتى لا يلفتوا الأنظار.
  • فيبحثون عن أشخاص عاديين يمرّرون الأموال عبر حساباتهم مقابل جزء بسيط من الربح.

المشكلة أن القانون في النهاية ينظر إلى حركة الأموال، لا إلى نوايا الشخص. وإذا تم ربط بعض هذه المعاملات بعمليات احتيال أو أنشطة محرّمة، قد يجد «بغل الأموال» نفسه جزءًا من تحقيق جنائي، حتى لو ظلّ يردّد: «كنت فاكر الموضوع شغل عادي من البيت».

علامات تحذيرية لأي عربي يُعرَض عليه «شغل تحويلات»

لتجنّب الوقوع في فخ يشبه ما وقع فيه ياسر، يمكن لأي شخص أن يتوقّف ويعيد التفكير إذا ظهرت واحدة أو أكثر من هذه العلامات:

  • صاحب «الوظيفة» لا يطلب سيرة ذاتية ولا مقابلة حقيقية، بل يكتفي برسائل سريعة على الواتساب أو التليجرام.
  • كل ما يُطلب منك هو: «استقبل الفلوس في حسابك أو كاش، ثم حوّلها لشخص آخر وخُذ عمولتك».
  • لا يوجد عقد واضح يشرح ما هي الشركة، وما طبيعة نشاطها، وما سبب هذه التحويلات.
  • يُطلب منك إرسال الأموال عبر ويسترن يونيون أو شركات تحويل أخرى إلى أشخاص لا تعرفهم، في دول متعدّدة لا علاقة لك بها.
  • يُطمئنك صاحب العمل دائمًا بعبارات عامة مثل: «متقلقش.. كله قانوني»، من دون تقديم أي مستند رسمي.

ماذا تفعل إذا شعرت أنك وقعت في الفخ؟

إذا اكتشف شخص ما أنه شارك بالفعل في مثل هذه العمليات قبل أن يفهم حقيقتها، لا يعني ذلك أن كل شيء انتهى، لكن عليه التحرك بحذر:

  • إيقاف التعاون فورًا: أول خطوة هي التوقف عن استقبال أي مبالغ أو إرسال أي تحويلات نيابة عن الآخرين.
  • الاحتفاظ بكل المراسلات: حفظ رسائل الواتساب أو البريد التي تثبت أن الشخص كان يعتقد أنه يعمل في وظيفة عادية، فقد تكون مهمة إذا طُلب منه تفسير لاحقًا.
  • التواصل مع البنك أو شركة التحويل بهدوء: في حال تجميد الحساب، يفضَّل شرح أنه كان يظن أن هذه التحويلات مرتبطة بعمل مشروع، وأنه مستعد للتعاون وتقديم كل المعلومات.
  • استشارة مختص قانوني إذا صدر استدعاء رسمي: في حال تلقي خطاب أو اتصال من جهة رقابية أو إنفاذ قانون، يكون من الحكمة التحدّث مع محامٍ قبل أي خطوة أو إجابة.

الخلاصة: ليس كل «دخل إضافي» فرصة حقيقية

ما حدث مع ياسر يمكن أن يحدث مع أي مهاجر يشعر بضيق الحال ويبحث عن طريقة سريعة لزيادة دخله. الإعلانات التي تعد بـ«العمل من البيت» و«أرباح مضمونة» قد تخفي وراءها مخاطر قانونية كبيرة لا تظهر في البداية. وبين رغبة المهاجر في مساعدة أسرته، وضغط الفواتير، وسذاجة الثقة في الغرباء، يتحوّل الحساب البنكي ومحلات تحويل الأموال إلى مسرح لعمليات لا يعرف حقيقتها إلا بعد فوات الأوان.

حماية نفسك لا تعني أن ترفض كل فرصة، لكنها تعني أن تسأل أكثر، وتطلب عقودًا أو مستندات واضحة، وترفض أن يكون حسابك أو اسمك جسرًا لأموال لا تعرف مصدرها ولا مصيرها. ففي النهاية، يمكن تعويض المال، لكن إصلاح السمعة وملفك المالي والقانوني في بلد الهجرة ليس أمرًا بسيطًا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: كف عن نسخ محتوى الموقع ونشره دون نسبه لنا !