تعتبر الجالية الفلسطينية في الولايات المتحدة واحدة من أكثر الجاليات ارتباطاً بقضيتها وهويتها الوطنية، ورغم التحديات السياسية والاجتماعية التي واجهتها، فقد نجحت في بناء وجود قوي ومؤثر، وساهمت بشكل كبير في مختلف جوانب الحياة الأمريكية، من الأوساط الأكاديمية والسياسية إلى الفنون وريادة الأعمال. إن قصة هذه الجالية هي قصة صمود في وجه الشتات، وإصرار على الحفاظ على التراث، وسعي دؤوب لإيصال صوت فلسطين إلى العالم.
بدأت موجات الهجرة الفلسطينية الكبرى إلى الولايات المتحدة بعد أحداث تاريخية مفصلية، أبرزها نكبة عام 1948 وحرب عام 1967. هذه الأحداث لم تقتلع الفلسطينيين من أرضهم فحسب، بل دفعت الكثيرين منهم للبحث عن ملاذ آمن ومستقبل جديد في المهجر. وقد شكل هؤلاء المهاجرون، الذين كان الكثير منهم من المتعلمين والمهنيين، نواة الجالية التي نمت وتطورت على مدى العقود التالية.
توزيع ديموغرافي وهوية متجذرة
يقدر عدد الأمريكيين من أصل فلسطيني بحوالي 160,000 شخص وفقاً لإحصاءات عام 2023، على الرغم من أن العديد من المصادر تشير إلى أن العدد الفعلي قد يكون أكبر. يتركز وجودهم بشكل كبير في مناطق حضرية معينة، أبرزها منطقة شيكاغو، التي يطلق على بعض أحيائها اسم “فلسطين الصغرى” (Little Palestine). كما توجد جاليات كبيرة في منطقة نيويورك، خاصة في مدينة باترسون بنيوجيرسي التي تُعرف بـ”رام الله الصغيرة”، وفي حي باي ريدج ببروكلين، بالإضافة إلى مدن أخرى مثل هيوستن ولوس أنجلوس وديترويت.
وما يميز هذه الجالية هو ارتباطها الوثيق بهويتها. فالكثير من الفلسطينيين الأمريكيين، حتى من الأجيال التي ولدت في أمريكا، يحافظون على لهجتهم وتقاليدهم، ويحرصون على نقل قصة وطنهم إلى أبنائهم. هذا الارتباط ليس مجرد حنين إلى الماضي، بل هو فعل مقاومة ثقافية وسياسية في مواجهة محاولات طمس الهوية الفلسطينية.
مساهمات بارزة في الفكر والسياسة والفن
لقد أثرى الفلسطينيون الأمريكيون المجتمع الأمريكي بمساهماتهم الفكرية والمهنية. في المجال الأكاديمي، يعتبر المفكر الراحل إدوارد سعيد، الأستاذ بجامعة كولومبيا، أحد أهم المنظرين في العالم، حيث أسس لدراسات ما بعد الاستعمار من خلال كتابه الشهير “الاستشراق”. كما يعد المؤرخ رشيد الخاليدي صوتاً أكاديمياً بارزاً في دراسة تاريخ فلسطين. هذه الأصوات الفكرية لعبت دوراً كبيراً في تشكيل فهم أعمق للقضية الفلسطينية في الأوساط الأكاديمية الغربية.[18]
وفي السياسة، برزت أسماء مثل رشيدة طليب، أول امرأة أمريكية من أصل فلسطيني تُنتخب في الكونغرس الأمريكي، والتي أصبحت صوتاً قوياً ومدافعاً عن حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية. وفي عالم الفن والإعلام، حقق مشاهير من أصول فلسطينية مثل المنتج الموسيقي دي جي خالد، وعارضتي الأزياء جيجي وبيلا حديد، نجاحاً عالمياً، مستخدمين شهرتهم في بعض الأحيان لتسليط الضوء على القضية الفلسطينية.
إن قصة الجالية الفلسطينية في أمريكا هي شهادة على قدرة شعب على تحويل مأساة الشتات إلى طاقة للبناء والنجاح. فمن خلال التركيز على التعليم (حيث أن 46% منهم حاصلون على شهادة جامعية على الأقل) والعمل الجاد، لم يكتفِ الفلسطينيون الأمريكيون ببناء حياة جديدة لأنفسهم، بل أصبحوا أيضاً جزءاً فاعلاً ومؤثراً في المجتمع الأمريكي، وسفراء لقضيتهم العادلة في أهم محفل دولي.