علاء ، شاب سوري في أواخر العشرينات، غادر سوريا بعد سنوات من الحرب والاعتقالات العشوائية والتجنيد الإجباري. رحلته لم تكن سهلة: مرّ عبر دولة عربية، ثم حصل بعد انتظار طويل على تأشيرة دخول مؤقتة إلى الولايات المتحدة عن طريق برنامج إنساني محدود. بعد وصوله إلى أمريكا، استقر مؤقتاً عند قريب له في إحدى الولايات التي تضم جالية سورية كبيرة، وبدأ التفكير في طلب اللجوء.
ما يعيشه علاء حقيقي: خوف من العودة، فقدان منزل العائلة، ذكريات مداهمات، وقلق من أن يُجبر على الخدمة العسكرية إذا عاد. لكنه حين بدأ يملأ في رأسه صورة «قصة اللجوء المثالية» كما يسمع من الآخرين، شعر أن ما عاناه ليس «درامياً» بما يكفي ليقنع موظف الهجرة، خاصة بعد أن سمع عبارات من نوع:
- «إذا ما عندك اعتقال وتعذيب، ما حدا يصدقك».
- «لازم تحكي عن تهديد مباشر بالقتل أو التعذيب».
- «قصتك الحالية ضعيفة، بدك قصة أقوى».
هنا بدأ يبحث عن «خبرة» تساعده في «تحسين القصة».
الدخول إلى فخ الجروب: “استشارات هجرة مجانية” على فيسبوك
في إحدى الليالي، انضم علاء إلى جروب فيسبوك يحمل اسماً مطمئناً:
«استشارات هجرة للاجئين العرب في أمريكا – مجاناً»
داخل الجروب، وجد مئات الأسئلة من لاجئين ومهاجرين، وتعليقات مطوّلة من أدمن الجروب أو أحد الأعضاء البارزين، يقدّم نفسه على أنه:
- «خبير قضايا لجوء منذ سنوات طويلة».
- «اشتغل مع أكبر مكاتب الهجرة في أمريكا».
- «بعرف شو اللي بيقنع الضابط وشو بيرفضه».
كان هذا الشخص يكتب بثقة، يستخدم مصطلحات قانونية سطحية، ويهاجم المحامين المسجلين قائلاً إنهم «يأخذون آلاف الدولارات على شغلات بسيطة». وفي كل مرة يسأله أحد عن أتعابه، يرد: «أنا ما بشتغل متل المحامين، بس إذا حبيت أساعدك بملفك بشكل خاص، في أتعاب رمزية مقابل وقتي».
تواصل علاء معه عبر الخاص، وشرح له وضعه الحقيقي: رفضه الخدمة العسكرية، خوفه من العودة، ما سمعه عن اعتقالات في منطقته. بعد دقائق من الاستماع، قال له هذا «الخبير»: «القصة هيك ضعيفة. بدك شي أقوى. بدون اعتقال، بدون تهديد مباشر، الضابط بيقول لك فيك تغير مكانك بسوريا. لازم نحط قصة مرتبطة بنشاط سياسي أو تقرير أمني عليك».
“تحسين” القصة يتحوّل إلى اختلاق كامل
بدلاً من أن يساعده على شرح تجربته الحقيقية بشكل منظم، بدأ هذا الشخص يفرض عليه قالباً جاهزاً:
- أضاف إلى قصته اعتقالاً لم يحدث، مع تواريخ محددة وتقنيات تعذيب وصفها بدقة كأنها من سيناريو مكرر.
- أقنعه أن يقول إنه كان يشارك في تنظيم مظاهرات ويكتب منشورات معارضة على فيسبوك تحت اسم مستعار، رغم أنه لم يكن منخرطاً في نشاط علني بهذا الشكل.
- طلب منه أن يذكر أسماء ضباط أو أفرع أمنية محددة، وترتيب أحداث «هروب درامي» عبر الحدود، كل ذلك لم يحدث فعلياً بهذه الصورة.
كتب هذا «الخبير» بنفسه مسودة قصة اللجوء بالعربية، ثم ترجمها إلى الإنجليزية بأسلوب واحد يتكرر تقريباً مع أكثر من زبون، مع تغيير الأسماء والتواريخ فقط. أرسل الملف لعلاء قائلاً له: «احفظ القصة منيح، وقلها مثل ما هي بالمقابلة. لا تغيّر ولا تفكّر كتير، هيك قصتك بتصير قوية».
بالموازاة، ساعده في تعبئة نموذج طلب اللجوء، وأرشده لكيفية إرساله ضمن المهلة القانونية. لم يضع اسمه في أي خانة كممثل قانوني، ولم يوقّع كمعدّ للنماذج، بل اكتفى بإرسال الملف لعلاء لطباعته وتوقيعه بنفسه، حتى لا يظهر أي أثر له في الأوراق الرسمية.
مقابلة اللجوء الأولى: رواية منمّقة تشبه قصصاً أخرى
بعد أشهر من الانتظار، تلقى علاء استدعاء لمقابلة اللجوء في مكتب تابع لـUSCIS. في اليوم السابق للمقابلة، أجرى معه «الخبير» مكالمة تحضير:
- كرّر عليه تفاصيل القصة كما كتبها.
- نبّهه إلى ضرورة استخدام نفس الترتيب الزمني.
- حذّره من أن يظهر شك أو تردد؛ لأن ذلك – حسب قوله – «يقتل مصداقيتك».
دخل علاء المقابلة متوتراً. في البداية، بدت الأمور طبيعية: أسئلة عن بياناته الشخصية، دخوله إلى أمريكا، وأفراد أسرته. ثم بدأ الضابط يسأله عن تفاصيل ما جرى في سوريا. أعاد علاء ما حفظه تقريباً، لكن:
- نسي بعض التواريخ التي كُتبت له في المسودة.
- ارتبك حين سُئل عن تفاصيل دقيقة حول المكان الذي زعم أنه اعتُقل فيه.
- لم يستطع وصف حيّه أو طريق هروبه كما يتوقع شخص عاش هذه التجربة فعلاً.
الضابط لم يواجهه مباشرة بالتناقضات، بل سجّل ملاحظاته بهدوء. مع ذلك، لاحظ أن بعض عناصر القصة تتشابه بشكل كبير مع ملفات أخرى مرت عليه في الأشهر الماضية: نفس نوع الاعتقال، نفس التسلسل تقريباً، نفس الصيغ الوصفية للتعذيب، بل وحتى نفس طريقة الحديث عن «الهروب عبر الحدود بمساعدة مهرب مجهول».
في نهاية المقابلة، قال له الضابط إن القرار سيُرسل بالبريد. خرج علاء وهو يشعر بشيء من القلق، لكنه ظن أن الأمور تسير بشكل طبيعي.
الضربة المفاجئة: استدعاء ثانٍ ومواجهة غير متوقعة
بعد فترة، بدلاً من أن تصله رسالة بالقبول أو الرفض، تلقى علاء إشعاراً بمقابلة ثانية «للحصول على معلومات إضافية». استغرب، فاتصل بهذا الشخص، الذي حاول تهدئته: «هذا شي عادي، أحياناً بيعملوا مقابلة تانية. بس ركّز وما تغيّر ولا تفصيل من اللي حكيناه».
في المقابلة الثانية، تغيّر الجو. حضر موظف ثانٍ وجلس إلى جانب الضابط. بدأت الأسئلة هذه المرة من نقطة مختلفة:
- تمت مراجعة أقواله السابقة أمامه، مع التوقف عند نقاط ضعف واضحة في التسلسل الزمني.
- سأله الضابط عن وثائق أو أدلة تدعم اعتقاله المزعوم، فلم يستطع تقديم شيء سوى قصاصات عامة من أخبار عن الأوضاع في سوريا.
- ثم فاجأه الضابط بسؤال: «هل سبق أن استفدت من نموذج مكتوب مسبقاً لقصة لجوء؟ هل دفعْتَ لأحد مقابل كتابة قصتك؟»
أنكر علاء في البداية، خوفاً من أن يعترف بأنه استعان بشخص غير مرخّص. لكن الضابط استمر في الضغط، مشيراً – دون ذكر أسماء – إلى أن لديهم ملفات أخرى لسوريين تحمل نفس العناصر الرئيسية تقريباً التي وردت في قصته، وأن هذا يثير شكوكاً جدية حول صدق روايته.
في تلك اللحظة، بدأ علاء ينهار. بين خوفه من أن يُتَّهم بالكذب وبين شعوره بأنه ضحية نصائح «محامي فيسبوك»، وقع في تناقضات أكبر:
- تراجع عن بعض التفاصيل التي ذكرها في المقابلة الأولى.
- حاول أن يخفف من حدة قصة الاعتقال قائلاً إنها «ربما لم تكن رسمية».
- لم يستطع تقديم تفسير منطقي للاختلافات، ما عزز انطباعاً بأن جزءاً كبيراً من القصة مختلق.
القرار القاسي: رفض وتحويل إلى محكمة هجرة
بعد هذه المقابلة، تلقى علاء قراراً خطّياً من دائرة الهجرة. جاء في مضمونه:
- أن روايته غير متسقة وفيها تناقضات بين المقابلتين.
- أن بعض عناصر قصته تتطابق بشكل مريب مع روايات أخرى، ما يضعف مصداقيتها.
- أنه لم يستطع تقديم أي أدلة أو تفاصيل دقيقة تدعم إدعاءاته حول الاعتقال والنشاط السياسي.
بناءً على ذلك، تم رفض طلب اللجوء الخاص به، وتحويل ملفه إلى محكمة الهجرة (EOIR) للنظر في مسألة ترحيله أو منحه نوعاً آخر من الحماية إذا توفرت شروطه. لم يُتَّهم رسمياً بـ«الاحتيال» بموجب بند محدد، لكن القرار أشار إلى وجود شكوك جدية حول صدق روايته.
بالنسبة لعلاء، كان هذا يعني:
- خسارة المسار السريع الذي كان يمكن أن يحصل من خلاله على اللجوء إن عرض قصته الحقيقية بشكل جيد.
- دخول في مسار قضائي طويل ومعقّد أمام قاضي هجرة، يحتاج فيه إلى محامٍ حقيقي هذه المرة، وبكلفة حقيقية لا مفر منها.
- حمل «وصمة الشك» في ملفه، ما يجعل أي قاضٍ ينظر إلى رواياته بحذر أكبر.
أين اختفى “محامي فيسبوك” حين اشتعلت النيران؟
عندما حاول علاء التواصل مع الشخص الذي ساعده في كتابة القصة بعد القرار، وجد ردوداً باردة ومختصرة:
- «أنا ما وعدتك بشي، أنا بس ساعدتك تشكل القصة».
- «أنا مو محامي، وأنت اللي وقعت على الأوراق».
- «هذا قرار الهجرة، مو ذنبي».
لم يكن هناك عقد مكتوب بينهما، ولا إيصالات رسمية تثبت الأتعاب التي دفعها له (كانت عبر تحويلات صغيرة متفرقة بـ Zelle وCash). لم يظهر اسم هذا الشخص في أي نموذج رسمياً كمعدّ للطلب، ما يجعل مسؤوليته القانونية المباشرة شبه معدومة في هذه القصة ، رغم أنه كان العامل الأساسي في دفع علاء إلى اختلاق أجزاء من روايته.
أما علاء، فقد أصبح هو الوحيد الذي يحمل المسؤولية أمام القانون، لأنه:
- وقّع على نموذج طلب اللجوء متعهداً بأن المعلومات الواردة فيه حقيقية وكاملة.
- قدّم بنفسه الرواية المختلقة في المقابلة، حتى وإن كانت مكتوبة من شخص آخر.
الدروس التوعوية: بين الخوف والصدق والقانون
قصة علاء، تعكس واقعاً خطيراً يتكرر في أوساط اللاجئين والمهاجرين العرب في أمريكا، ويمكن تلخيصه في عدة نقاط توعوية:
- أولاً: الخوف لا يبرر الكذب في ملفات اللجوء
قد تكون المعاناة حقيقية، لكن تضخيمها أو اختلاق أجزاء منها بإيعاز من «خبير مزعوم» يمكن أن يحوّل ملفاً قابلاً للنقاش إلى ملف مرفوض بالكامل، وربما يحمل شبهة احتيال يصعب محوها. - ثانياً: “محامي فيسبوك” لا يتحمل مسؤولية توقيعك
أي شخص يقدّم نفسه على السوشيال ميديا كخبير هجرة دون ترخيص، ثم يكتب لك قصة جاهزة، لن يقف معك أمام الضابط أو القاضي إذا انكشف الأمر. توقيعك أنت هو الذي يحمل كل المسؤولية. - ثالثاً: التشابه بين القصص ليس مجرد صدفة
موظفو الهجرة وقضاة اللجوء يرون مئات الملفات. عندما تتكرر نفس الصياغة ونفس السيناريوهات والعبارات، من الطبيعي أن يشتبهوا بوجود «نموذج جاهز» ينتقل بين المتقدمين، وهذا يضر بالجميع، حتى من لديهم قصص حقيقية. - رابعاً: ليس كل من ينتقد المحامين بطلًا شعبياً
نعم، أتعاب المحامين قد تكون مرتفعة أحياناً، لكن الحل ليس في اللجوء إلى أشخاص غير مرخصين يلعبون في أخطر ملف في حياتك. هناك منظمات غير ربحية تقدم مساعدة قانونية مخفّضة أو مجانية، وهي أضمن بكثير من «استشارات الجروبات». - خامساً: قصتك الحقيقية قد تكون كافية إذا عُرضت بطريقة صحيحة
ليس شرطاً أن تكون تعرضت لتعذيب جسدي أو اعتقال طويل حتى يستمع إليك القانون. أحياناً، شرح الظروف الحقيقية بدقة، مع ربطها بالقانون، يكون أقوى من قصة درامية مفبركة تنهار عند أول سؤال تفصيلي.
في النهاية، تذكّر هذه القصة لكل طالب لجوء عربي في أمريكا أن الصدق المنظم أفضل ألف مرة من الكذب المتقن ظاهرياً، وأن ضغطة زر في جروب فيسبوك قد تفتح باباً لنصيحة مجانية، لكنها قد تغلق في وجهك أبواب الإقامة والحماية لسنوات طويلة.






