الجالية العربية

غرف الموتى في أمريكا تفضح سائق جنازات مصري وتضعه في قلب قضية جنائية خطيرة

أحمد ، شاب مصري في منتصف الثلاثينات، جاء إلى أمريكا قبل سنوات قليلة واستقر في إحدى ولايات الساحل الشرقي. بعد فترة من العمل في مطاعم وتوصيل طلبات، حصل على وظيفة يعتبرها «محترمة» وأكثر استقراراً: سائق في مكتب جنازات يتعاقد مع مستشفيات ودور رعاية وحالات رعاية منزلية لنقل جثامين المتوفَّين إلى دار الجنائز أو المقابر.

طبيعة العمل كانت قاسية نفسياً لكنها ثابتة مالياً: اتصالات طارئة في ساعات متأخرة من الليل، وحضور إلى منازل أو دور رعاية أو غرف مستشفيات لنقل المتوفَّى، والتعامل مع أسر في حالة صدمة، وتحميل الجثمان بعناية واحترام. مع الوقت، تعلّم أحمد تفاصيل كثيرة عن إجراءات الوفاة في أمريكا: من شهادة الوفاة، إلى التواصل مع الطبيب أو مكتب الطب الشرعي، إلى تنسيق مواعيد الدفن أو الحرق، بحسب رغبة الأسرة والقوانين المعمول بها.

في حالات كثيرة، كان أحمد يدخل منازل المتوفَّين بمرافقة أحد أفراد الأسرة أو موظف من الرعاية التلطيفية (hospice). كان يرى أثاثاً بسيطاً أو فاخراً، وثلاجات مليئة بالأدوية، وزجاجات صغيرة من أقوى المسكنات التي لا تُصرف إلا بوصفة طبية، موضوعة بجوار سرير المريض أو على الطاولة الجانبية، في انتظار أن يقرر أحد أفراد الأسرة أو طاقم الرعاية ماذا يفعل بها بعد الوفاة.

نقطة التحوّل: من ملاحظة الأدوية إلى فكرة «الاستفادة منها»

في إحدى الليالي، استُدعي أحمد إلى منزل متواضع لنقل امرأة مسنّة توفّيت بعد صراع مع السرطان. أثناء وجوده في غرفة النوم، لاحظ زجاجة دواء معروفة من مسكنات الألم الأفيونية القوية بجوار السرير، ومعها علب أخرى شبه ممتلئة. الزوج المصدوم كان مشغولاً في تلقي الاتصالات من الأقارب، والممرضة التي كانت تتابع حالة المريضة جاءت سريعاً لإكمال أوراق الوفاة، لكنها لم تمس الأدوية.

سمع أحمد حديثاً جانبياً بين الممرضة والزوج عن ضرورة التخلص من الأدوية بطريقة آمنة «حتى لا يُساء استخدامها»، وأنه يمكن للأسرة أن تعيدها إلى الصيدلية أو إلى نقطة تجميع تابعة لشرطة المنطقة أو تتبع تعليمات خاصة للتخلص منها. لكن وسط الزحام والحزن والبكاء، بقيت الأدوية في مكانها.

في طريقه إلى الخارج، ضغطت الأزمة المالية على رأس أحمد: أقساط سيارة، إيجار، التزامات لأهله في مصر. بدأ عقله يهمس له: «هذه الأدوية باهظة الثمن، كثيرون يدفعون مئات الدولارات للحصول على جرعات صغيرة منها في السوق السوداء، والأسرة على الأرجح ستتخلّص منها أو تتركها في درج حتى تنتهي صلاحيتها. ماذا لو أخذتها؟».

في تلك الليلة، قاوم الفكرة وغادر دون أن يمد يده. لكن المشهد تكرر في وظائف أخرى: منازل فيها زجاجات حبوب قويّة التأثير، موضوعة في متناول اليد، بينما انشغال الأسرة بالجثمان والصدمة يجعل أحداً لا ينتبه لعدد الأقراص في الزجاجة أو لوجودها من الأساس. ومع تكرار المشاهد، ضعفت مقاومته شيئاً فشيئاً.

بداية الانحراف: حبة واحدة… ثم تجارة صغيرة في الظل

في حالة أخرى، بعد أشهر من عمله في مكتب الجنازات، استُدعي أحمد لنقل جثمان رجل مسنّ كان يتلقى رعاية منزلية بسبب آلام مزمنة. كانت زجاجة الدواء على الطاولة، نصف ممتلئة تقريباً. بعد انتهاء مهمته، وأثناء خروجه من الغرفة للحاق بزملائه، توقّف لحظة، التفت إلى الطاولة، مدّ يده سريعاً ووضع الزجاجة في جيبه الداخلي.

في البداية، لم يكن أحمد يتعاطى الأدوية بنفسه. عرضها على أحد معارفه العرب الذي كان يعاني من آلام مزمنة في الظهر ولا يملك تأميناً صحياً جيداً. أخبره أنه عرف «مصدرًا» يستطيع أن يحصل له من خلاله على دواء قوي بسعر أقل بكثير من العيادات الخاصة. الصفقة الأولى مرّت بسلاسة، دون مشاكل. بعدها، بدأ الطلب يتزايد من دائرة ضيقة من المعارف، «للتسكين» أو «للمساعدة على النوم» أو لأغراض أخرى.

تحوّل الأمر تدريجياً إلى نمط ثابت: كلما دخل أحمد منزلاً فيه وصفات أفيونية ظاهرة، يتحيّن فرصة لحظة ارتباك الأسرة أو انشغالهم بالجثمان، فيأخذ زجاجة أو جزءاً من محتواها. لم يكن يعبث بالأدوية العادية أو بأشياء أخرى من المنزل؛ كان يركز فقط على المسكنات القوية المسجَّلة بأسماء المتوفَّين، ما جعل السرقة تبدو «غير مرئية» في نظره. فهو يتصور أن أحداً لن يراجع علب دواء مريضٍ فارق الحياة.

شرارة الشك: جرعة زائدة لمراهق تربط الخيوط بجثمان متوفَّى

انهار البناء الوهمي الذي بناه أحمد على فكرة أن «لا أحد سيلاحظ» عندما وقع حادث لم يكن في الحسبان: شاب مراهق في حي قريب توفي بسبب جرعة زائدة من مسكن أفيوني قوي. عند فحص الغرفة، وجد المحققون زجاجة دواء لا تحمل اسمه، بل تحمل اسم رجل مسن كان قد توفي قبل أسابيع قليلة في منزله، وكانت حالته معروفة لدى إحدى شركات الرعاية المنزلية.

تتبعت الشرطة وصفة الدواء، وتبيّن أنها صُرفت قبل فترة قصيرة من وفاة الرجل. تواصل المحققون مع أسرته، فأخبرتهم زوجته أنها تتذكّر وجود الزجاجة بجوار السرير، لكنها لا تعرف ماذا حدث لها بعد خروج مكتب الجنازات وأفراد طاقم الرعاية. قالت بصدق: «في تلك الليلة، لم نلمس شيئاً، كنا جميعاً في حالة انهيار. كل ما أذكره أن السرير كان كما هو، والأدوية في مكانها».

أثار ذلك شكوك المحققين حول احتمال أن تكون الأدوية قد اختفت بين لحظة الوفاة ولحظة نقل الجثمان. بدأت دائرة التحقيق تتسع لتشمل كل من دخل المنزل في تلك الفترة: الممرضات، أفراد الأسرة، وسائق مكتب الجنازات الذي حضر لنقل المتوفَّى.

التحقيق يتوسع: مقارنة بين حالات متعددة وكاميرات منازل

في ظل تصاعد أزمة الأفيونات، كانت الشرطة في المنطقة قد طوّرت وحدة خاصة تراقب حالات الجرعات الزائدة وترصد مصادر الأدوية. بعد حادثة المراهق، قررت الوحدة مراجعة ملفات أخرى لجرعات زائدة في المنطقة، ومقارنة أسماء أصحاب الوصفات الموجودة على الزجاجات التي عُثر عليها في مسارح الحوادث مع سجلات الوفيات الأخيرة.

بمرور الوقت، ظهرت نمطية مقلقة: أكثر من زجاجة أفيونات استُخدمت في جرعات زائدة أو ضُبطت مع متعاطين في الشارع كانت تحمل أسماء أشخاص متوفَّين نُقلت جثامينهم عن طريق مكتب الجنازات نفسه، وفي تواريخ قريبة من الوفاة. لم يكن ذلك دليلاً قاطعاً بمفرده، لكنّه كان كافياً لدفع المحققين للتدقيق في كل حلقة من حلقات السلسلة.

طلبت الشرطة من بعض الأسر التي كانت لا تزال تحتفظ بتسجيلات كاميرات المراقبة المنزلية (خارجية أو داخلية) أن تسمح بمراجعتها، خاصة تلك التي تُظهر مداخل المنزل خلال وقت حضور طاقم مكتب الجنازات. في إحدى الحالات، أظهرت الكاميرا أحمد وهو يدخل الغرفة التي كان الجثمان فيها وحده لبضع ثوانٍ إضافية قبل خروج النقالة، في وقت كانت الأسرة مجتمعة في غرفة المعيشة.

لم تُظهر الكاميرا بوضوح ما فعله في الداخل، لكنها بيّنت أنه لم يكن مضطراً للبقاء وحده في الغرفة كل هذا الوقت لأسباب تتعلق بنقل الجثمان فقط، ما أضاف نقطة أخرى إلى قائمة الشبهات. وعندما وُضعت هذه اللقطات إلى جانب سجلات الاتصال من هاتفه مع بعض الأرقام المعروفة لدى شرطة مكافحة المخدرات، بدأت الصورة تتشكل تدريجياً.

الاعتراف تحت الضغط: من «خدمة عرب» إلى جناية فيدرالية

استُدعي أحمد إلى مركز الشرطة للاستجواب، في البداية كشاهد، ثم كمشتبه به. سأله المحققون عن تفاصيل كل حالة، وعن سبب وجود أسماء مرضى متوفَّين على زجاجات أدوية عُثر عليها لدى متوفّين بسبب الجرعات الزائدة. حاول في البداية التهرّب والقول إنه لا يعلم شيئاً، وأن عشرات الأشخاص يدخلون ويخرجون من منازل المرضى قبل وبعد الوفاة.

لكن مع عرض تسجيلات الكاميرات، وسجلات الاتصالات، وتطابق توقيت وجوده في بعض المنازل مع اختفاء الأدوية، وجد نفسه محاصراً. تحت ضغط الأسئلة وتهديده بإحالة الملف إلى جهات فيدرالية بتهم تشمل سرقة أدوية خاضعة للرقابة وحيازتها بقصد التوزيع، انهار واعترف بأنه أخذ عدداً من زجاجات الأفيونات من منازل متوفَّين، وأنه باع بعضها «لمعارف» كانوا يطلبونها كمسكنات قوية أو «للاستخدام الشخصي».

حاول الدفاع عن نفسه بالقول إنه لم يكن «تاجراً كبيراً»، وأنه لم يزوّد عصابات منظمة أو شبكات توزيع، بل كان «يخدم عرباً مثله» يحتاجون إلى مسكنات ولا يستطيعون تحمل كلفة الأطباء. لكن المحققين أكّدوا له أن القانون لا يفرّق كثيراً في هذه النقطة: خروج الأدوية من مسارها القانوني إلى مسار غير قانوني هو تحويل غير مشروع للأدوية (drug diversion)، سواء تم لمريض واحد أو لعشرة.

النتيجة: اتهامات ثقيلة وخسارة عمل ومستقبل

أحيل ملف أحمد إلى النيابة، وواجه مجموعة من التهم، من بينها:

  • سرقة ممتلكات من منازل متوفَّين، تشمل أدوية خاضعة للرقابة.
  • حيازة أدوية أفيونية دون وصفة طبية صحيحة، وبكميات تُعدّ غير مبرَّرة للاستعمال الشخصي.
  • نقل وبيع أدوية خاضعة للرقابة خارج القنوات القانونية.

كما تم فتح تحقيق موازٍ مع مكتب الجنازات نفسه، للتأكد من وجود سياسات رقابية ومنع لاستغلال لحظات نقل الجثمان في الوصول إلى الأدوية أو ممتلكات الأسرة، وللتحقق مما إذا كان أصحاب المكتب على علم بما يحدث أو تغاضوا عنه.

بالنسبة لأحمد، أُغلق باب العمل في مجال الجنازات نهائياً؛ فمجرد الاشتباه في استغلال وضعه للوصول إلى أدوية أو ممتلكات المتوفَّين كافٍ لإنهاء الثقة فيه. كما أصبح سجله الجنائي – حتى قبل صدور الحكم النهائي – عائقاً أمام الحصول على وظائف أخرى تتطلب تعاملًا مع منازل أو ممتلكات أو كبار سن.

دروس توعوية للجالية: أدوية المتوفَّين ليست «غنيمة» ولا مجالاً للمجاملة

قصة أحمد، تكشف عن واقع قانوني وإنساني شديد الحساسية يواجهه كثيرون في أمريكا عند التعامل مع أدوية المتوفَّين، خاصة الأدوية الأفيونية القوية:

  • أولاً: أدوية المتوفَّى تظل خاضعة للقانون
    وفاة المريض لا تجعل الأدوية «مباحة» لأي شخص يدخل المنزل. التصرف الصحيح هو أن يقوم أفراد الأسرة، أو الأشخاص المخوّلون بالتصرّف في ممتلكات المتوفَّى، بالتنسيق مع الصيدلية أو برامج رسمية للتخلّص من الأدوية، وعدم تركها عرضة للسرقة أو لسوء الاستخدام.
  • ثانياً: تحويل الأدوية إلى أقارب أو معارف مخالفة قانونية خطيرة
    حتى لو كانت النيّة «مساعدة شخص يتألم» أو «التوفير على مريض لا يملك تأميناً»، فإن إعطاء مسكنات أفيونية لشخص بدون متابعة طبية ومن خارج القنوات القانونية يمكن أن يعرّض الطرفين للخطر: خطر الجرعة الزائدة، وخطر الملاحقة الجنائية.
  • ثالثاً: العاملون في القطاع الصحي أو الجنائزي تحت المجهر
    الممرّضات، الأطباء، موظفو الرعاية المنزلية، سائقو الإسعاف والجنازات… جميعهم يُنظر إليهم قانونياً كأشخاص لديهم إمكانية الوصول إلى أدوية خطيرة. أي انحراف في هذا السياق غالباً ما يُعامل بصرامة أكبر من الشخص العادي، لأن القانون يعتبره «استغلالاً لموقع الثقة».
  • رابعاً: على الأسر العربية أن تتصرّف بسرعة في أدوية المتوفَّى
    ترك الأدوية في المنزل لفترة طويلة بعد الوفاة يفتح الباب أمام احتمال سرقتها من زائر أو عامل أو حتى فرد من العائلة. الأفضل هو التواصل مع الصيدلية أو الشرطة أو برامج «استرجاع الأدوية» المعتمدة للتخلّص منها بأمان، وعدم التهاون في هذا الملف.
  • خامساً: الضغوط المادية لا تبرّر المخاطرة بالمستقبل
    في مجتمعات المهاجرين، من السهل أن يقول البعض: «هي شوية حبوب مش هتفرق» أو «كل الناس بتعمل كده». لكن في الواقع، قضية واحدة من هذا النوع قد تسقط صاحبها في فخ جناية تُغلق أمامه أبواب العمل والإقامة وربما الجنسية مستقبلاً.

في النهاية، تذكّر هذه القصة كل عامل وكل أسرة عربية في أمريكا بأن التعامل مع الأدوية الخاضعة للرقابة – خاصة بعد وفاة المرضى – ليس أمراً شكلياً أو بسيطاً. إنها منطقة قانونية حمراء، وأي محاولة لاستغلالها، تحت أي شعار، قد تحوّل شخصاً يسعى إلى تحسين دخله أو مساعدة غيره إلى متهم في قضية لا ترحم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى