الجالية العربية

جهاز خفي يسرق بطاقات الزبائن من محطة بنزين في أمريكا يديرها مهاجر عراقي

في ضاحية هادئة على أطراف مدينة أميركية متوسطة الحجم، يدير قاسم ، مهاجر عراقي في أواخر الأربعينات، محطة بنزين صغيرة ورث عقد استئجارها قبل سنوات. المحطة ليست فاخرة، لكنها تخدم عشرات السائقين يومياً: عرب، أميركيون، سائقي توصيل، وعائلات تمر في طريقها إلى عمل الصباح أو مدارس الأطفال.

قاسم يحاول أن يحافظ على سمعته: أسعار الوقود مقبولة، متجر صغير يبيع القهوة والوجبات الخفيفة، وعلاقة طيبة مع الجيران. يعمل لساعات طويلة، ويستعين باثنين من العمال، أحدهما يشتغل في الوردية الليلية. على مستوى الأوراق، كل شيء يبدو منضبطاً: تصريح بلدي، تأمين، فحص دوري للمضخات، ونظام دفع إلكتروني يقبل البطاقات الائتمانية وبطاقات الخصم (Credit/Debit).

لكن ما لم يكن يدركه قاسم هو أن محطة البنزين يمكن أن تتحوّل بسهولة إلى نقطة مثالية للسرقة الإلكترونية، وأن إهمالاً بسيطاً في تأمين مضخاته سوف يضعه هو نفسه في قلب تحقيق مالي معقّد.

شكاوى متفرقة: سحوبات غريبة بعد التزود بالوقود

بعد فترة، بدأت تظهر شكاوى غامضة في الحي، لكنها لم تصل في البداية إلى قاسم مباشرة. بعض الزبائن لاحظوا وجود سحوبات صغيرة ومتكررة من بطاقاتهم بعد أيام من التزود بالوقود:

  • مبالغ بين 15 و30 دولاراً في متاجر إلكترونية لم يتسوقوا منها.
  • محاولات شراء مرفوضة في ولايات أخرى بأرقام لا تتوافق مع نمط إنفاقهم المعتاد.
  • سحوبات من متاجر بقالة أو محطات أخرى في مناطق لم يزورُوها أصلاً.

في البداية، ظنّ البعض أن المشكلة في البنوك أو في مواقع التسوق. لكن مع مرور الوقت، طرح موظف خدمة عملاء في أحد البنوك سؤالاً على زبون عربي من الجالية: «هل استخدمت بطاقتك مؤخراً في محطة بنزين معينة؟ لدينا أكثر من عميل اشتكى بعد استخدام بطاقته في نفس المحطة خلال الأيام الماضية».

بدأت البنوك تلاحظ نمطاً: عدد من أصحاب البطاقات الذين تعرضوا لمحاولات سحب مشبوهة استخدموا كلّهم بطاقاتهم في محطة واحدة خلال فترة زمنية متقاربة، هي محطة قاسم.

ما هو جهاز “سكيـمِر” (Skimmer)؟ وكيف يستهدف محطات البنزين؟

قبل أن نكمل القصة، من المهم أن نفهم مفهوم جهاز skimmer:

  • جهاز سكيـمِر (Skimmer) هو جهاز صغير يقوم بقراءة ونسخ بيانات البطاقة عندما يقوم الزبون بإدخالها في قارئ البطاقة الحقيقي. يوضع هذا الجهاز عادةً:
    • إما فوق فتحة قارئ البطاقات كغطاء مزيّف يشبه شكل الجهاز الأصلي.
    • أو داخل المضخة نفسها بعد فتحها بمفتاح أو كسر قفلها، فيتم وصل السكيـمِر بكابلات القارئ الداخلي.
  • عندما يمرّر الزبون بطاقته، يقوم قارئ المحطة بتنفيذ العملية القانونية، وفي نفس اللحظة يسجّل السكيـمِر بيانات الشريط الممغنط (Magnetic Strip)، وأحياناً رقم التعريف الشخصي (PIN) إذا كان هناك:
    • لوحة أزرار مزيّفة فوق لوحة الأرقام الأصلية.
    • أو كاميرا صغيرة جداً مخفية تلتقط حركة الأصابع على لوحة الأرقام.
  • يتم لاحقاً:
    • إما تفريغ البيانات من الجهاز يدوياً بواسطة الشخص الذي ركّبه.
    • أو إرسال البيانات لاسلكياً إلى جهاز آخر قريب.

    ثم تُستخدم هذه البيانات في صناعة بطاقات مزوّرة أو لإجراء عمليات شراء عبر الإنترنت.

محطات البنزين هدف مفضل لمثل هذه الأجهزة؛ لأن الزبون غالباً يكون مستعجلاً، والمضخات تكون خارجية بعيدة نسبياً عن عين الموظفين، مع وجود مئات المحطات التي لا تطبّق إجراءات تفتيش يومية صارمة على شكل قارئ البطاقة أو قفل المضخة.

اكتشاف الرابط: من البنوك إلى أجهزة إنفاذ القانون

مع تزايد الشكاوى، بدأت عدة بنوك محلية تبلّغ سلطات إنفاذ القانون عن نمط مشترك لسحوبات مشبوهة مرتبطة بمحطة واحدة. في الولايات المتحدة، التعاون بين البنوك والشرطة في قضايا سرقة بيانات البطاقات أمر معتاد، وقد يشارك فيه أحياناً:

  • شرطة المدينة أو المقاطعة.
  • وحدات متخصصة في الجرائم المالية.
  • أحياناً جهات فيدرالية إذا اتسع نطاق القضية بين ولايات متعددة.

بعد مراجعة بيانات عشرات البطاقات المتضرّرة، تم تحديد قائمة قصيرة من المحطات التي استخدمت فيها البطاقات قبل ظهور السحوبات المشبوهة. كانت محطة قاسم في أعلى القائمة.
قررت السلطات تنفيذ تفتيش ميداني مفاجئ للمضخات في هذه المحطات، مع التركيز على قفل الباب الخارجي للمضخة وشكل قارئ البطاقات.

في محطة قاسم، لفت نظر فريق التحقيق أن أحد أبواب المضخة يحمل آثار خدش بسيطة قرب القفل، وأن نوع القفل قديم نسبياً وغير مطابق لأحدث التوصيات الأمنية. عند فتح المضخة بحضور قاسم نفسه، اكتشف الفريق وجود لوحة إلكترونية إضافية موصولة بأسلاك القارئ الأصلي، ليست من ضمن مكوّنات الشركة المصنّعة للمضخة؛ كانت هذه اللوحة هي جهاز السكيـمِر.

قاسم في الواجهة: هل هو شريك أم ضحية إهمال؟

بالنسبة لقاسم، كان المشهد مدمراً نفسياً: رجال شرطة، فريق تقني يفحص المضخة، وزبائن يتساءلون عمّا يحدث. لم يكن – بحسب روايته – يعرف شيئاً عن وجود هذا الجهاز، ولم يلاحظ أي تغيير في المضخة؛ فهي تعمل بشكل عادي، والزبائن يدفعون، والنظام يسجّل العمليات.

مع ذلك، من وجهة نظر التحقيق، غياب علمه لا يعفيه تماماً من المسؤولية في مرحلة أولية، على الأقل فيما يتعلق بـ:

  • عدم اتخاذ إجراءات تفتيش يومية على شكل قارئ البطاقات، ومطابقة مظهره مع صورة الجهاز الأصلي من الشركة.
  • عدم تغيير الأقفال القديمة أو استخدام أقفال موحدة يسهل نسخ مفاتيحها، ما يزيد فرص دخول أشخاص غير مصرح لهم إلى داخل المضخة.
  • عدم وجود كاميرات مراقبة قريبة من المضخات تسجل بوضوح أي شخص يعبث بها خارج أوقات الصيانة الرسمية.

تم استدعاء قاسم إلى مركز الشرطة للاستجواب. وُجّهت إليه أسئلة عن:

  • من لديه مفاتيح المضخات؟
  • هل تم إجراء صيانة خارج شركة معتمدة مؤخراً؟
  • هل لاحظ أي شخص غريب يقف بجوار المضخات لفترات طويلة؟

أكّد قاسم أنه لا يسمح لغيره بفتح المضخات، وأنه استدعى في السابق عامل صيانة “من طرف صديق” لفحص أحد العدادات، لكنه لم يتحقق من اعتماده الرسمي. هذه النقطة بالذات صارت محوراً خطيراً في التحقيق: فقد تكون اللحظة التي تم فيها تركيب السكيـمِر.

تأثير الواقعة على الزبائن والجالية

الخبر انتشر بسرعة في الجالية العربية: «محطة بنزين العراقي فيها جهاز يسرق الكروت».
بعض الناس تعاطفوا مع قاسم، معتبرين أنه ضحية عصابة استهدفت محطته كما تستهدف مئات المحطات. آخرون اتهموه بالتقصير وربما التواطؤ، متسائلين عن:

  • لماذا لم يركّب كاميرات بجودة عالية عند كل مضخة؟
  • ولماذا لا يفتّش بنفسه شكلياً على قارئات البطاقات مرة يومياً على الأقل؟
  • هل كان يفضّل استخدام عمال صيانة غير معتمدين لتوفير المال؟

بغض النظر عن نواياه، كان الضرر قد وقع بالفعل:

  • عشرات الزبائن اضطروا إلى إلغاء بطاقاتهم وإعادة إصدار بطاقات جديدة.
  • بعضهم خسر وقتاً في التواصل مع البنوك وتقديم اعتراضات على العمليات غير المصرح بها.
  • ثقة جزء من المجتمع المحلي في المحطة تهتز، خاصة بين من لا يفرّقون بين قاسم كفرد والجالية التي ينتمي إليها.

ماذا يعني ذلك قانونياً لصاحب المحطة؟

من الناحية القانونية، التحقيق في هذه الحالات يجيب عن سؤالين رئيسيين:

  1. هل كان صاحب المحطة أو أحد موظفيه ضالعاً عمداً في تركيب السكيـمِر أو الاستفادة منه؟
    إذا ثبت التواطؤ، يمكن أن يواجه تهمًا خطيرة تشمل الاحتيال، وسرقة الهوية، والتآمر في جرائم مالية، وقد تمتد إلى قضايا فيدرالية إذا استُخدمت البيانات في عمليات احتيال بين ولايات متعددة.
  2. حتى لو لم يثبت التواطؤ، هل كان هناك إهمال جسيم في حماية أجهزة الدفع؟
    قد لا يؤدي ذلك دائماً إلى اتهام جنائي، لكنه يفتح الباب أمام:

    • دعاوى مدنية من العملاء المتضررين.
    • مراجعات تنظيمية من جهات رقابية أو شركات بطاقات الدفع.
    • إجراءات من شركات البطاقات أو البنوك قد تؤدي إلى وقف التعامل مع المحطة إذا اعتبروها نقطة خطر متكرر.

في قصة قاسم، لم تثبت التحقيقات – ضمن هذا السيناريو الخيالي – أنه استفاد مباشرة من سرقة بيانات البطاقات، لكنّها أثبتت أنه:

  • لم يطبق بروتوكولات الحماية والتفتيش الموصى بها لأصحاب المحطات.
  • استعان بفني صيانة غير معتمد دون التحقق من هويته أو الشركة التي يعمل لحسابها.

ما أدى إلى توجيه إنذار شديد وفرض غرامة إدارية، مع إلزامه بتحديث الأقفال، وتركيب كاميرات إضافية، والالتزام بدورات تدريبية حول حماية بيانات الدفع. لكن حتى مع ذلك، ما زال ملفه مفتوحاً للمراقبة، وثقة جزء من زبائنه تحتاج لوقت طويل كي تُستعاد – إن استعيدت.

دروس توعوية للجالية: حماية البطاقة وحماية البزنس.

أولاً: نصائح للزبائن العرب في أمريكا

  • راقب شكل قارئ البطاقة: إذا بدا الجزء الذي تدخل فيه البطاقة سميكاً بشكل غير طبيعي أو يتحرك عند لمسه، فهذه علامة خطر.
  • فضّل الدفع داخل المتجر: في بعض الحالات، يكون الدفع داخل الكاشير أكثر أماناً من قارئ البطاقة في المضخة الخارجية.
  • استخدم بطاقات فيها شريحة (Chip) وتفعيل تنبيهات البنك: تفعيل الإشعارات الفورية لأي عملية يساعدك على اكتشاف السرقات مبكراً.
  • راجع كشف حسابك شهرياً: عمليات صغيرة ومتكررة قد تكون بداية اختبارات من السارقين قبل استخدام البطاقة بمبالغ أكبر.

ثانياً: نصائح لأصحاب المحطات والأعمال الصغيرة

  • افحص المضخات يومياً: تأكد من أن قارئ البطاقة لم يُضاف فوقه جزء جديد، وأن الأقفال سليمة وغير مخدوشة.
  • استخدم أقفالاً معتمدة وغير شائعة: بعض السكيـمِر يعتمد على مفاتيح عامة تُستخدم لنفس نوع القفل في آلاف المحطات.
  • ركّب كاميرات بزاوية واضحة على المضخات: وجود تسجيلات عالية الجودة لواجهة كل مضخة يردع كثيراً من العابثين، ويساعد التحقيق إذا وقع شيء.
  • لا تسمح لفني صيانة مجهول بفتح المضخات: استعن فقط بشركات معتمدة، واحتفظ بسجلات مكتوبة لكل زيارة صيانة.
  • درّب الموظفين: العامل الذي يقف في الشباك هو خط دفاع أول؛ إذا لاحظ شخصاً يقف طويلاً بجوار المضخة دون أن يملأ السيارة بالوقود، يجب أن ينتبه.

في النهاية، تذكّر هذه القصة لكل مهاجر عربي، سواء كان سائقاً عادياً أو صاحب محطة، أن جهازاً صغيراً غير مرئي تقريباً يمكن أن يسرق أموال الناس وثقتهم، وأن إهمال تأمين المضخات أو أجهزة الدفع قد يحوّل محطة بسيطة في ضاحية هادئة إلى مسرح لقضية جنائية لا تنتهي آثارها عند حدود التحقيق، بل تمتد إلى سمعة الجالية بأكملها.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى