في مقال رأي مؤثر وموجع للقلب نشرته صحيفة “بوسطن غلوب”، تروي كينيا غيريرو قصة تفكك عائلتها وتحطم حياتها بعد أن قامت السلطات الأمريكية بترحيل زوجها، الذي عاش وعمل في الولايات المتحدة لمدة 16 عاماً. قصتها ليست مجرد حكاية فردية، بل هي تجسيد حي للتكلفة الإنسانية الباهظة لسياسات الهجرة التي تركز على الأرقام والإحصائيات، وتتجاهل الروابط العميقة التي يبنيها المهاجرون في مجتمعاتهم على مدى عقود.
تصف كينيا في مقالها كيف بنت مع زوجها حياة كاملة في أمريكا. لقد عملا بجد، وأنشآ أسرة، وكانا جزءاً من نسيج مجتمعهما. لكن كل ذلك انهار في لحظة واحدة بقرار ترحيل. تكتب بكلمات تحمل ألماً عميقاً: «لقد سلبوا زوجي، وسلبوا أباً، وسلبوا كل شيء بنيناه معاً. نحن الآن نتفكك».
تفاصيل الواقعة المؤلمة
في مشهد مؤلم يعكس قسوة السياسات الفيدرالية في التعامل مع العائلات المهاجرة، تم ترحيل الأب دانيال فلوريس‑مارتينيز، البالغ من العمر 36 عامًا، من الولايات المتحدة إلى المكسيك في مايو الماضي، رغم إقامته في البلاد منذ عام 2009، وزواجه من مواطنة أمريكية، وإنجابه ثلاثة أطفال، من بينهم طفلة تعاني من إعاقات شديدة.
في صباح يوم الأحد 11 مايو، الذي وافق عيد الأم في الولايات المتحدة، كانت كينيا غيريرو، زوجة دانيال، تقود سيارتها في مدينة تشيلسي بولاية ماساتشوستس، وبرفقتها زوجها وأطفالهم الثلاثة، عندما أوقفتهم قوة من عناصر الهجرة والجمارك (ICE) بمظهر شبه عسكري. دون أي مذكرة قانونية، قام العناصر بتحطيم زجاج السيارة وسحبوا دانيال بالقوة وألقوه أرضًا قبل أن يضعوه في سيارة تابعة للوكالة ويقتادوه بعيدًا عن أسرته.
لم تقتصر المأساة على لحظة الاعتقال العنيف فحسب، بل تفاقمت عندما علمت الأسرة أنه تم ترحيل دانيال بسرعة إلى مدينة ماتاموروس بالمكسيك، وهي مدينة حدودية لم يعش فيها قط. أما الأطفال، فقد عانوا من صدمة نفسية كبيرة: الطفل الأصغر، البالغ من العمر ثلاث سنوات، أصبح يرفض ركوب السيارة؛ أما الابنة الكبرى ذات الـ12 عامًا والتي تعاني من الشلل الدماغي والصرع والاستسقاء الدماغي، فشهدت حالتها تدهورًا ملحوظًا؛ في حين فقد الابن المراهق اتصاله بأصدقائه وانهار تحصيله الدراسي.
لماذا لم يحصل على الجنسية رغم زواجه من أمريكية؟
دخل دانيال إلى الولايات المتحدة في عام 2009 وهو في سن المراهقة. ولسوء حظه، حاول أفراد من عائلته تقديم طلب لجوء باسمه دون علمه، ما أدى إلى صدور أمر ترحيل غيابي بحقه. لم يكن دانيال حينها مدركًا لما حدث، ولم يتلقَّ إشعارًا رسميًا. لاحقًا، حين تزوج من كينيا غيريرو، وهي مواطنة أمريكية وتملك مشروعًا صغيرًا للدهانات، حاول تعديل وضعه القانوني، لكن أمر الترحيل القديم حال دون حصوله على الإقامة الدائمة أو الجنسية. وعلى الرغم من حياته المستقرة في البلاد ودفعه للضرائب لسنوات طويلة، ظل يعيش في ظل تهديد دائم بالترحيل.
تداعيات إنسانية مدمرة
غياب دانيال أثّر بشكل مباشر على الوضع المادي والعاطفي للأسرة. توقفت أعمال الزوجين، ما أفقد العائلة مصدر دخلها الوحيد، وواجهت كينيا تحديًا هائلًا في رعاية أطفالها الثلاثة بمفردها، خاصة مع المتطلبات الصحية المعقدة لابنتها. تقول كينيا إن أكثر ما يؤلمها هو مشاهدة طفلتها تسأل عن والدها كل ليلة دون أن تتمكن من إعطائها إجابة واضحة.
العديد من منظمات المجتمع المدني، منها “Lawyers for Civil Rights” و”La Colaborativa”، قدّمت الدعم القانوني والإنساني للعائلة، لكن فرص إعادة دانيال إلى الولايات المتحدة تبقى ضئيلة في ظل القوانين الحالية.
رسالة من قلب المعاناة
تُعد هذه القصة نموذجًا صارخًا لما تواجهه عائلات مختلطة الجنسية في ظل تشديد سياسات الهجرة. إذ يُعامل أفراد يقيمون في الولايات المتحدة منذ سنوات، ويدفعون الضرائب، ويربّون أسرهم، كمجرمين يجب اقتلاعهم من جذورهم، دون اعتبار للروابط الأسرية أو الظروف الإنسانية الخاصة، كما في حالة هذه الطفلة المريضة التي كانت تعتمد على والدها في الرعاية والدعم.
تقول كينيا غيريرو في مقال رأي نشرته في صحيفة “بوسطن غلوب”: “كل ما نطلبه هو السماح لزوجي بالبقاء لعام واحد فقط حتى أتمكن من نقل الرعاية الصحية لطفلتنا إلى المكسيك. لم نطلب إعفاءً، بل فرصة لإنقاذ حياة ابنتنا”.
ويبقى السؤال: متى تتحول سياسات الهجرة إلى سياسات تنظر إلى الإنسان لا الورق فقط؟
وجه إنساني لسياسات الترحيل
تأتي قصة كينيا في وقت تظهر فيه البيانات الرسمية أن وكالة الهجرة والجمارك (ICE) تركز بشكل متزايد على اعتقال وترحيل المهاجرين الذين ليس لديهم سجلات جنائية. زوجها هو واحد من عشرات الآلاف الذين، على الرغم من كونهم أعضاء منتجين في المجتمع لسنوات طويلة، يجدون أنفسهم فجأة مستهدفين. قصتها تضع وجهاً إنسانياً لهذه الإحصائيات، وتوضح أن وراء كل رقم ترحيل هناك أسرة ممزقة، وأطفال يعانون من غياب أحد الوالدين، ومستقبل غامض.
إنها تسلط الضوء على المعضلة الأخلاقية التي تواجهها أمريكا: هل يمكن اعتبار شخص ما “غريباً” أو “غير مرغوب فيه” بعد أن قضى ما يقرب من ثلاثة عقود من حياته يساهم في اقتصاد ومجتمع البلاد؟ قصتها تجبر القارئ على التفكير في معنى الانتماء والوطن، وتطرح سؤالاً جوهرياً حول ما إذا كانت قوانين الهجرة الحالية قادرة على التمييز بين التهديدات الأمنية الحقيقية والآباء والأمهات الذين كل “جريمتهم” هي البحث عن حياة أفضل لعائلاتهم.
صدى في الجاليات المهاجرة
تجد قصة كينيا غيريرو صدى عميقاً في قلوب الملايين من أفراد الجاليات المهاجرة في جميع أنحاء الولايات المتحدة، بما في ذلك الجاليات العربية. فالكثيرون منهم يعيشون في وضع قانوني غير مستقر، أو لديهم أقارب وأصدقاء يواجهون نفس المصير. هذه القصة تذكرهم بالهشاشة الدائمة لوجودهم، وبالخوف المستمر من أن يطرق بابهم قرار يقلب حياتهم رأساً على عقب. إنها دعوة للتضامن، وتذكير بأن المعركة من أجل سياسات هجرة أكثر إنسانية وعدلاً هي معركة تمس جوهر القيم التي تدعي أمريكا أنها تمثلها.