الجالية العربية

مشاجرة في شقة عربية بنيويورك تنتهي بأمر حماية ضد الزوج رغم تأكيد الزوجة أنه «لم يضربها»

لم يكن «مازن»، الأربعيني العربي المقيم مع أسرته في شقة صغيرة بإحدى ضواحي مدينة نيويورك، يتخيّل أن ليلة شتوية عادية ستغيّر شكل بيته لعدة أشهر. بالنسبة له، ما حدث لم يكن أكثر من «خناقة زوجية» يعلو فيها الصوت وتشتعل الأعصاب، ثم تهدأ الأمور في اليوم التالي كأن شيئًا لم يكن. لكن في أمريكا، حيث تُعامَل أي إشارة لعنف داخل المنزل بجدية شديدة، تحوّلت هذه المشاجرة إلى قضية عنف أسري وأمر حماية قانوني يمنعه من الاقتراب من زوجته وأطفاله لفترة.

البداية: ضغط يومي ومشاجرة «عادية» في نظر الزوجين

يعمل مازن لساعات طويلة في توصيل الطلبات، ويعود إلى البيت منهكًا في وقت متأخر. زوجته «نجلاء» تعمل بدوام جزئي في متجر قريب، وتتحمّل معظم أعباء المنزل والمدرسة مع طفلين في المرحلة الابتدائية. تراكمت الضغوط المادية والنفسية: إيجار مرتفع، فواتير متأخرة، ورسائل من المدرسة تطلب متابعة أكبر للأطفال.

في تلك الليلة، عاد مازن متعبًا بعد يوم طويل من العمل، ليجد المطبخ غير مرتب والطفلين لم ينتهيا بعد من الواجبات المدرسية. بدأت نجلاء تشكو من غيابه المستمر وتقصيره في شؤون البيت، فردّ هو بحدة عن ضغط العمل، وارتفعت الأصوات سريعًا. تبادل الزوجان الاتهامات، وبدأ كلاهما يضرب بيده على الطاولة ويشير بعصبية.

في لحظة غضب، اقترب مازن من نجلاء ورفع يده في الهواء وهو يصرخ: «اسكتي بقى! تزعّقي تاني وأنا هطلّعك برّه البيت!». لم يلمسها فعليًا، لكنه اقترب إلى درجة جعلتها تتراجع وترفع يدها أمام وجهها لا إراديًا. الطفل الأكبر رأى المشهد، فبدأ يبكي ويحاول أن يتدخل بينهما.

جار أمريكي يسمع الصراخ… والنتيجة: اتصال بـ 911

الجار في الشقة المقابلة، وهو أمريكي متقاعد، اعتاد سماع بعض الأصوات من وقت لآخر، لكنه في تلك الليلة شعر أن الصراخ يرتفع أكثر من المعتاد، وأن هناك بكاء أطفال وطرقًا على الأبواب. بحكم ثقافته وخبرته بما يراه في نشرات الأخبار عن قضايا العنف الأسري، قرّر أن يتصل برقم الطوارئ 911 ويبلغ عن «مشاجرة عائلية» في الشقة المجاورة.

لم يكن مازن ولا نجلاء على علم بما حدث في الخارج. بعد دقائق من استمرار المشاجرة وتبادل الاتهامات داخل المطبخ، سمع الجميع طرقًا قويًا على الباب. فتحت نجلاء الباب مرتبكة، لتجد أمامها شرطيين بزيّهم الرسمي، وإلى جوارهما ضوء سيارة الشرطة يلمع في ممرّ المبنى.

سأل أحد الشرطيين بنبرة حازمة: «We’ve received a report of a domestic disturbance. Is everyone safe here?». لم تفهم نجلاء كل الكلمات، لكنها أدركت أن أحدهم قد بلّغ عنهم. حاولت أن تردّ بأنها مجرد «مشاكل عابرة بين زوجين»، لكن الشرطي طلب الدخول ليتأكد من سلامة الأطفال والزوجة، كما يفرض عليه القانون في مثل هذه البلاغات.

داخل الشقة: أسئلة مباشرة وصمت عربي مربِك

دخل الشرطيان إلى غرفة الجلوس، حيث كان الطفلان يبكيان. جلس مازن على الأريكة يحاول أن يبدو هادئًا، بينما وقفت نجلاء إلى جوار المطبخ تحاول ترتيب كلماتها بالإنجليزية. بدأ أحد الشرطيين في طرح أسئلة منفصلة:

  • سأل نجلاء إن كان زوجها قد ضربها أو دفعها أو هددها بشكل مباشر.
  • سأل مازن إن كان قد لمس زوجته أو كسر شيئًا في البيت خلال المشاجرة.
  • سأل الأطفال عما رأوه، وهل يخافون من وجود والدهم في البيت حاليًا.

في الثقافة العربية، كثيرًا ما يفضّل الزوجان إنكار أي تصرّف عنيف أمام الغرباء «حتى لا تفضح الأسرة». لذلك، أصرت نجلاء على أن «مازن لم يضربها»، لكنها اعترفت بأنه كان يصرخ واقترب منها بشكل مخيف فاضطرت للتراجع، وأن الطفل بدأ يبكي ويحاول أن يحميها. حين سُئل مازن، قال إنه كان «يتحدث بصوت عالٍ فقط» وأن ما حدث «خناقة عادية في كل بيت».

لكن بالنسبة للشرطي، هناك عناصر في المشهد لا يمكن تجاهلها:

  • بلاغ من جار يسمع صراخًا وبكاء أطفال.
  • اعتراف الزوجة بأن الزوج اقترب منها بعصبية ورفع صوته ويده.
  • أطفال في حالة خوف، يقول الأكبر منهم إن «بابا كان هيضرب ماما» حتى لو لم يلمسها فعليًا.

وفقًا للسياسة المتّبعة في كثير من المقاطعات، حين يشتبه الشرطي في وجود عنف أسري أو تهديد جسدي، لا يكتفي بالنصيحة والمغادرة، بل قد يتخذ إجراءً فوريًا لحماية الطرف الأضعف، حتى لو رفض الزوجان ذلك ظاهريًا.

القرار الصادم: إخراج الزوج من المنزل وأمر حماية مؤقت

بعد مشاورات قصيرة بين الشرطيين، تم إبلاغ مازن بأنهم لن يضعوا الأصفاد في يده هذه المرة، لكنهم سيطلبون منه مغادرة البيت تلك الليلة وعدم العودة حتى إشعار آخر. صُدم مازن، وقال إنه لا يملك مكانًا يذهب إليه، وإنه مستعد لأن يهدأ ويتوقف عن الصراخ، لكن الشرطي أوضح أن الأمر ليس اختيارًا:
«We have to separate you tonight for safety reasons».

تم توثيق الواقعة في تقرير الشرطة، وأُحيلت القضية إلى المحكمة المحلية للنظر في إصدار أمر حماية مؤقت (Temporary Restraining Order) لصالح نجلاء والأطفال. بعد يومين، تلقت نجلاء اتصالًا من المحكمة وطلبوا حضورها مع مازن أو بمفرده في جلسة عاجلة. لم يكن الزوجان يدركان أن ما بدآه كشجار منزلي أصبح الآن ملفًا رسميًا يحمل رقم قضية.

في جلسة المحكمة، سأل القاضي نجلاء عن شعورها بالأمان، وإن كانت تخشى من تكرار ما حدث. تحت ضغط الموقف وذكريات تلك الليلة، قالت إنها «خافت بالفعل» عندما اقترب منها مازن ورفع صوته ويده. هذه الجملة وحدها كانت كافية ليقرّر القاضي إصدار أمر حماية لعدة أسابيع يمنع مازن من:

  • الاقتراب من زوجته أو التواصل معها مباشرة.
  • دخول الشقة التي تسكن فيها الأسرة، إلا بإذن خاص لجمع بعض أغراضه.
  • التواجد في المدرسة التي يذهب إليها أطفاله خلال فترة الأمر.

وجد مازن نفسه فجأة يقيم عند أحد أصدقائه، يحمل حقيبة صغيرة وقلقًا كبيرًا: كيف سيستمر في عمله؟ كيف سيتواصل مع أطفاله؟ وماذا سيحدث لو استمرت القضية أو تحوّل الأمر إلى سجل جنائي يؤثر على إقامته المستقبلية؟

كيف تنظر القوانين الأمريكية للعنف الأسري؟

في كثير من الولايات الأمريكية، يُعرّف العنف الأسري (Domestic Violence) بأنه ليس فقط الضرب المباشر، بل يشمل أيضًا:

  • التهديد باستخدام العنف حتى دون تنفيذ.
  • محاصرة الطرف الآخر أو منعه من الخروج من الغرفة أو البيت.
  • تدمير ممتلكات أمامه بقصد التخويف (كسر هاتف، رمي أشياء بقوة).
  • إرعاب الأطفال أو استخدامهم للضغط على الشريك.

بمجرد وجود بلاغ رسمي، تصبح الشرطة ملزَمة باتخاذ إجراء، وليس من صلاحيتها أن تكتفي بعبارة «تصالحوا وانتهى الموضوع». كذلك، قد تُبلَّغ خدمات حماية الطفل (CPS) إذا وُجدت قناعة بأن الأطفال تعرضوا لخطر نفسي أو جسدي، ما يضيف طبقة إضافية من التعقيد للأسرة.

صدمة ثقافية: ما يعتبره البعض «خلافًا عاديًا» قد يُسجَّل كواقعة قانونية

كثير من الأزواج في مجتمعاتنا يعتبرون ارتفاع الصوت أو طرق الأبواب أو حتى دفعًا خفيفًا في لحظة غضب جزءًا من «العصبية» التي تُحلّ في اليوم التالي. لكن في السياق الأمريكي، حيث ترتبط حوادث العنف الأسري بحالات قتل وانتحار سابقة، يُفضَّل أن تتدخل الدولة مبكرًا قبل أن تتصاعد الأمور.

ما لم يدركه مازن ونجلاء في البداية هو أن وجود أطفال في المنزل يجعل أي مشهد عنيف، حتى لو لم يصب أحد بأذى جسدي، أمرًا أكثر حساسية، لأن القانون يضع سلامتهم النفسية والجسدية في أعلى الأولويات.

كيف يمكن للأزواج العرب في أمريكا تجنّب الوقوع في مواقف مشابهة؟

بدون تبرير لأي سلوك خاطئ أو إنكار لحق الزوجة والأطفال في الأمان، يمكن استخلاص مجموعة من الدروس العملية من قصة مازن ونجلاء:

  • تجنّب الصراخ و«العِراك» أمام الأطفال: حتى لو لم يحدث أي عنف جسدي، يكفي بكاء الطفل وخوفه ليبدو المشهد خطيرًا في نظر الجيران والشرطة.
  • عدم الاقتراب من الشريك بطريقة تهديدية: الوقوف على بعد قريب مع رفع اليد أو دفع الكرسي قد يُفسَّر على أنه محاولة اعتداء.
  • طلب استراحة قبل انفجار النقاش: يمكن لأي من الطرفين أن يطلب الخروج للمشي أو الدخول إلى غرفة أخرى حتى تهدأ الأعصاب.
  • التفكير قبل الاتصال بالأقارب: في كثير من الأحيان، قد يؤدي تدخل شخص غير فاهم للقانون إلى زيادة المشكلة بدل حلّها.
  • معرفة الحقوق القانونية: من حق أي طرف طلب مترجم في المحكمة، ومن حقه استشارة محامٍ قبل توقيع أي أوراق تخص أوامر الحماية أو الإقرارات.

الخلاصة: البيت الآمن لا يعني بيتًا بلا مشاكل… بل بيتًا يُدار فيه الخلاف دون عنف

المشاكل والخلافات جزء طبيعي من أي زواج، خاصة في حياة المهاجرين الذين يعيشون تحت ضغط مادي ونفسي مضاعف. لكن الفارق بين بيت يستمر وبيت ينهار أمام أول بلاغ شرطة، هو طريقة إدارة الغضب والخلاف. في أمريكا، لا ينظر القانون إلى الخلفية الثقافية بقدر ما ينظر إلى السلوك الفعلي داخل المنزل.

قصة مازن ونجلاء تذكير لكل أسرة عربية في المهجر بأن الكلمات الغاضبة والحركات العصبية قد لا تنتهي عند باب الشقة كما كان يحدث في بلادنا، بل يمكن أن تُسجَّل في ملف رسمي يترك أثره على الإقامة والعمل، وربما على مستقبل الأطفال أنفسهم. الحفاظ على البيت لا يعني فقط توفير الطعام والإيجار، بل أيضًا خلق مساحة حوار آمن لا يتحوّل فيها الغضب إلى تهديد أو خوف.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: كف عن نسخ محتوى الموقع ونشره دون نسبه لنا !