لم يكن «علي» يتخيّل أن حلمه البسيط بالعمل في مطعم عربي في إحدى مدن الساحل الشرقي للولايات المتحدة سيتحوّل إلى كابوس يومي. جاء إلى أمريكا بتأشيرة زيارة، ثم اضطر للبقاء بحثًا عن فرصة أفضل، حتى وجد عملاً في مطعم يعرفه أبناء الجالية العربية جيدًا. في البداية ظنّ أن الأمور «مؤقتة» وأن صاحب العمل «ابن بلد» سيتفهم ظروفه، لكن الشهور الأولى كشفت له ولزملائه حقيقة مختلفة تمامًا.
يعمل علي ما بين عشر وأربع عشرة ساعة في اليوم، ستة أيام في الأسبوع، دون عقد مكتوب، ودون أي تأمين صحي أو إجازات مدفوعة. الأجر يُدفع نقدًا في نهاية الأسبوع، أقل من الحد الأدنى الرسمي، والبقشيش الذي يتركه الزبائن على الطاولات يختفي في درج الكاشير قبل أن يصل إلى جيوب العمال. وعندما جرؤ أحدهم على السؤال عن نصيبه من البقشيش، جاءه الرد بحدة: «لو مش عاجبك الشغل، الشرطة والهجرة برّه الباب».
استغلال العمال المهاجرين في المطاعم: قصة «علي» وزملائه
قصة علي ليست حالة فردية، بل نموذج يتكرر في كثير من المطاعم الصغيرة داخل الجاليات المهاجرة، خصوصًا حين يكون العمال من دون أوراق إقامة كاملة أو يعملون في أيامهم الأولى داخل الولايات المتحدة. يبدأ الأمر غالبًا بوعود مثل:
- «الراتب بسيط الآن، لكن عندما يتحسّن الشغل نزوّده».
- «ما تشغلش بالك بالأوراق، أنا هظبط كل حاجة بعدين».
ومع مرور الوقت، يجد العامل نفسه مرتبطًا بهذا العمل لأنه لا يعرف البدائل، وخائفًا من البحث عن فرصة جديدة بسبب ضعفه في اللغة أو جهله بالقوانين أو خوفه من انكشاف وضعه للهجرة.
العمل «تحت الطاولة» بداية سلسلة من الانتهاكات
معظم صور الاستغلال تبدأ من نقطة واحدة: العمل من دون عقد ومن دون تسجيل رسمي للأجور أو الساعات، وهو ما يُعرف شعبيًا بالعمل «تحت الطاولة». في هذه الحالة:
- لا يُسجَّل العامل في كشوف الرواتب الرسمية.
- لا يُصرّح بعدد ساعات عمله الحقيقي.
- لا يحصل على مستندات تثبت دخله عند الحاجة (للايجار أو البنك أو الهجرة).
هذا الوضع يمنح صاحب العمل قوة كبيرة للضغط على العمال، إذ يصبح من السهل عليه أن ينكر عدد الساعات، أو يخفض الأجر فجأة، أو يطرد العامل من دون إنذار، وهو مطمئن إلى أن العامل سيخاف من الشكوى أو البلاغ.
سرقة الأجور والبقشيش: جريمة خفية في المطاعم
من أبرز أشكال الاستغلال في المطاعم ما يُعرف بـسرقة الأجور (Wage Theft)، وتشمل:
- دفع أجر أقل من الحد الأدنى المعمول به في الولاية.
- عدم احتساب ساعات العمل الإضافية بعد 40 ساعة في الأسبوع.
- خصم مبالغ غير مبررة من الراتب بحجة «أخطاء» أو «كسور» أو «أكل للعمال».
- الاستيلاء على البقشيش الذي يتركه الزبائن وعدم توزيعه بالشكل العادل.
في مطعم علي، كان صاحب العمل يجمع البقشيش من الطاولات ويضعه في صندوق قريب من الكاشير، ثم يعلن في نهاية الأسبوع أن «البقشيش لا يكفي لتوزيعه» أو أنه «سيُستخدم لتغطية خسائر المطعم». هكذا حرم العمال من جزء أساسي من دخلهم، مع أن القانون في كثير من الحالات يعتبر البقشيش حقًا مباشرًا للعامل وليس لصاحب المطعم.
التهديد بـ «الهجرة» سلاح لإسكات العمال
أخطر ما في هذه القصص أن أصحاب بعض المطاعم يستخدمون الخوف من السلطات الفيدرالية كورقة ضغط رئيسية. في وجه كل عامل يطالب بحقه تُرفع بطاقة التهديد:
- «لو اشتكيت، ببلغ عنك إنك شغال من غير أوراق».
- «لو رحت على المحكمة، هتعرف الهجرة عنوانك».
- «أنت مش مواطن، لو عملت مشكلة يرحلوك».
هذا النوع من التهديدات يخلق مناخًا من الرعب داخل مكان العمل، ويدفع العمال إلى الصمت رغم علمهم بأنهم يتعرضون للظلم. كثيرون يفضّلون تحمل الاستغلال على المخاطرة بمستقبلهم داخل البلد الذي جاؤوا إليه بحثًا عن حياة أفضل.
ما هي حقوق العمال في الولايات المتحدة؟
رغم كل هذا، من المهم أن يعرف كل عامل عربي حقيقة أساسية: قوانين العمل في الولايات المتحدة تحمي معظم العمال بغضّ النظر عن وضعهم الهجري، في قضايا الأجور وساعات العمل وسرقة البقشيش في العديد من الحالات. من بين الحقوق العامة المنتشرة في أغلب الولايات:
- الحق في الحصول على أجر لا يقل عن الحد الأدنى المعمول به في الولاية.
- الحق في أجر إضافي (Overtime) عن الساعات التي تتجاوز 40 ساعة أسبوعيًا في أعمال معينة.
- الحق في بيئة عمل خالية من التمييز المبني على الأصل أو الدين أو اللون أو الجنس.
- في كثير من القطاعات الخدمية، يُعتبر البقشيش ملكًا للعامل وليس لصاحب العمل، ولا يجوز الاستيلاء عليه بالكامل.
- حظر الانتقام من العامل (كالطرد أو التخويف) لمجرد أنه اشتكى أو حاول معرفة حقوقه.
التفاصيل الدقيقة تختلف من ولاية إلى أخرى ومن قطاع لآخر، لكن القاعدة العامة أن القانون لا يسمح لصاحب العمل بأن يبني ثروته على عرق العمال المهاجرين دون مقابل عادل.
خطوات عملية لعامل عربي يتعرض للاستغلال
إذا كنت تعمل في مطعم أو متجر وتشعر أنك تتعرض لسرقة الأجور أو البقشيش أو التهديد المستمر، فهناك خطوات عملية يمكن التفكير فيها بحذر:
- توثيق كل شيء: احتفظ بسجل شخصي بعدد ساعات عملك اليومية، وصور لجدول الشفتات إن أمكن، وأي رسائل نصية أو ملاحظات من الإدارة.
- سؤال بهدوء عن سياسة البقشيش والأجور: أحيانًا يكون هناك سوء فهم يمكن حله بالحوار، لكن الحوار نفسه يكشف لك نوايا صاحب العمل.
- التحدّث مع زملاء العمل: توحيد الموقف يعطيك قوة أكبر من الشكوى الفردية.
- التواصل مع منظمات مجتمع مدني أو مراكز عمالية: كثير من المدن الكبرى فيها جمعيات تقدّم استشارات مجانية بلغات متعددة، بعضها يتعامل كثيرًا مع العرب والمهاجرين.
- استشارة محامٍ متخصص في قضايا العمل إن أمكن: بعض المحامين يتقاضون أتعابهم كنسبة من المبالغ المستردة في حال كسب الدعوى.
الأهم أن يعرف العامل أن مجرد التفكير في السؤال عن حقوقه لا يعني تلقائيًا أن الهجرة ستأتي إلى باب منزله؛ فالجهات المسؤولة عن العمل ليست بالضرورة هي نفسها المسؤولة عن قضايا الإقامة.
لماذا يصمت كثير من العمال العرب رغم الظلم؟
الصمت ليس دليل رضًا، بل نتيجة تركيبة معقدة من الخوف والحاجة:
- الخوف من فقدان مصدر الدخل الوحيد للأسرة.
- الخجل من الاعتراف بأن «ابن البلد» يستغل أبناء جاليته.
- ضعف اللغة الإنجليزية وصعوبة التعامل مع الجهات الرسمية.
- القلق من أن ينكشف وضع الإقامة لمن ليست أوراقهم مكتملة.
لهذا السبب، تصبح قصص مثل قصة علي وزملائه ضرورية لتذكير الجالية بأن التضامن يبدأ من رفض السكوت على الانتهاكات داخل مؤسساتنا نحن، قبل أن نشتكي من ظلم الآخرين لنا.
خاتمة: العمل بكرامة حق وليس «رفاهية» للمهاجر
جاء علي إلى أمريكا بحثًا عن فرصة، ووجد نفسه في مطعم يستغل حاجته وخوفه. قد لا يستطيع كل عامل أن يواجه صاحب العمل أو أن يرفع دعوى، لكن أقل ما يمكن فعله هو فهم الحقوق، وتبادل المعلومات بين أبناء الجالية، والابتعاد قدر الإمكان عن أماكن العمل التي تبني أرباحها على الأجور المسروقة والتهديد والترهيب.
احترام كرامة العامل المهاجر لا يتعارض مع الربح، بل هو أساس أي مشروع يريد أن يستمر في بلد تقوم قوانينه على فكرة أن الإنسان ليس مجرد رقم في دفتر الأرباح والخسائر، بل شخص له حقوق لا تسقط لمجرد أنه جاء من بلد بعيد بحثًا عن حياة أفضل.





